مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٢٧
الشرع لأن من أنكر نبوته فلا فائدة في الخوض معه في تفاريع الشرع، ومن أثبت نبوته فإنه لا يخالفه، فعلمنا أن هذا الجدال كان في التوحيد والنبوة، فكان الجدال فيه مأموراً به ثم إنا مأمورون باتباعه عليه السلام لقوله :
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران : ٣١] ولقوله : لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب : ٢١] فوجب كوننا مأمورين بذلك الجدال. وثانيها : قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الحج : ٣، ٨ لقمان : ٢٠] ذم من يجادل في اللّه بغير علم وذلك يقتضي أن المجادل بالعلم لا يكون مذموماً بل يكون ممدوحاً وأيضاً حكى اللّه تعالى ذلك عن نوح في قوله : يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود : ٣٢] وثالثها : أن اللّه تعالى أمر بالنظر فقال : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء : ٨٢]، أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية : ١٧]، سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت : ٥٣]، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد : ٤١]، قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [يونس : ١٠١]، أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ورابعها : أن اللّه تعالى ذكر التفكر في معرض المدح فقال : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ [الزمر : ٢١]، إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران : ١٣]، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه : ٥٤، ١٢٨] وأٌضاً ذم المعرضين فقال : وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف : ١٠٥]، لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف : ١٧٩] وخامسها :
أنه تعالى ذم التقليد، فقال حكاية عن الكفار إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف : ٢٣] وقال : بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا [لقمان : ٢١] وقال : بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء : ٧٤] وقال : إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها [الفرقان : ٤٢] وقال عن والد إبراهيم عليه السلام : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [مريم : ٤٦] وكل ذلك يدل على وجوب النظر والاستدلال والتفكر وذم التقليد فمن دعا إلى النظر والاستدلال، كان على وفق القرآن ودين الأنبياء ومن دعا إلى التقليد كان على خلاف القرآن وعلى وفاق دين الكفار. وأما الأخبار ففيها كثرة، ولنذكر منها وجوهاً :
أحدها : ما
روى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال : جاء رجل من بني فزارة إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم، فقال إن امرأتي وضعت غلاماً أسود فقال له هل لك من إبل، فقال : نعم قال : فما ألوانها قال حمر قال : فهل فيها من أورق؟ قال : نعم. قال : فأنى ذلك، قال : عسى أن يكون قد نزعه عرق قال : وهذا عسى أن يكون نزعه عرق»
واعلم أن هذا هو التمسك بالإلزام والقياس. وثانيها :
عن أبي هريرة قال : قال عليه الصلاة والسلام :«قال اللّه تعالى : كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني، وشتمني ابن آدم ولم يكن له أن يشتمني. أما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني، وليس أول خلقه بأهون على من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ اللّه ولداً وأنا اللّه الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد»
فانظر كيف احتج اللّه تعالى في المقام الأول بالقدرة على الابتداء، على القدرة على الإعادة، وفي المقام الثاني احتج بالأحدية على نفي الجسمية والوالدية والمولودية. وثالثها :
روى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال :«من أحب لقاء اللّه أحب اللّه لقاءه، ومن / كره لقاء اللّه كره اللّه لقاءه» فقالت عائشة : يا رسول اللّه إنا نكره الموت فذاك كراهتنا لقاء اللّه؟ فقال عليه السلام :» لا ولكن المؤمن أحب لقاء اللّه فأحب اللّه لقاءه، والكافر كره لقاء اللّه فكره اللّه لقاءه
وكل ذلك يدل على أن النظر والفكر في الدلائل مأمور به. واعلم أن للخصم مقامات. أحدها : أن النظر لا يفيد العلم. وثانيها : أن النظر المفيد للعلم غير مقدور. وثالثها : أنه لا يجوز الإقدام عليه. ورابعها : أن الرسول ما أمر به. وخامسها : أنه بدعة.


الصفحة التالية
Icon