مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٣٢
وأما الاستشهاد يقال خلق النعل إذا قدرها وسواها بالقياس، ومنه قول العرب للأحاديث التي لا يصدق بها، أحاديث الخلق، ومنه قوله تعالى : إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ [الشعراء : ١٣٧] والخلاق المقدار من الخير، وهو خليق أي جدير كأنه الذي منه الخلاق، والصخرة الخلقاء الملساء لأن في الملاسة استواء، وفي الخشونة اختلاف ومنه «أخلق الثوب» لأنه إذا بلي صار أملس واستوى نتوه واعوجاجه، فثبت أن الخلق عبارة عن التقدير والاستواء قال القاضي عبد الجبار : الخلق فعل بمعنى التقدير واللغة لا تقتضي أن ذلك لا يتأتى إلا من اللّه تعالى بل الكتاب نطق بخلافه في قوله : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون : ١٤]، وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ [المائدة : ١١٠] لكنه تعالى لما كان يفعل الأفعال لعلمه بالعواقب وكيفية المصلحة ولا فعل له إلا كذلك لا جرم اختص بهذا الاسم وقال أستاذه أبو عبد اللّه البصري إطلاق اسم خالق على اللّه محال لأن التقدير والتسوية عبارة عن الفكر والنظر والحسبان وذلك في حق اللّه محال، وقال جمهور أهل السنة والجماعة : الخلق عبارة عن الإيجاد والإنشاء واحتجوا عليه بقول المسلمين لا خالق إلا اللّه، ولو كان الخلق عبارة عن التقدير لما صح ذلك.
المسألة الثالثة : اعلم أنه سبحانه أمر بعبادته والأمر بعبادته موقوف على معرفة وجوده، ولما لم يكن العلم بوجوده ضرورياً بل استدلالياً لا جرم أورد هاهنا ما يدل على وجوده، واعلم أننا بينا في «الكتب العقلية» أن الطريق إلى إثباته سبحانه وتعالى إما الإمكان، وإما الحدوث. وإما مجموعهما، وكل ذلك إما في الجواهر أو في الأعراض، فيكون مجموع الطرق الدالة على وجوده سبحانه وتعالى ستة لا مزيد عليها. أحدها : الاستدلال بإمكان الذوات، وإليه الإشارة بقوله تعالى : وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [محمد : ٣٨] وبقوله حكاية عن إبراهيم : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء : ٧٧] وبقوله : وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم : ٤٢] وقوله : قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ [الأنعام : ٩١]، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات : ٥٠]، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : ٢٨] وثانيها :
الاستدلال بإمكان الصفات وإليه الإشارة بقوله : خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النحل : ٣] وبقوله : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً على ما سيأتي تقريره. وثالثها : الاستدلال بحدوث الأجسام. وإليه الإشارة بقول إبراهيم عليه السلام : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام : ٧٦] ورابعها : الاستدلال بحدوث الأعراض، وهذه الطريقة أقرب الطرق إلى أفهام الخلق، وذلك محصور في أمرين : دلائل الأنفس، ودلائل الآفاق، «و الكتب الإلهية» في الأكثر مشتملة على هذين البابين، واللّه تعالى جمع هاهنا بين هذين الوجهين. أما دلائل الأنفس، فهي أن كل أحد يعلم بالضرورة / أنه ما كان موجوداً قبل ذلك وأنه صار الآن موجوداً وأن كل ما وجد بعد العدم فلا بد له من موجد وذلك الموجد ليس هو نفسه ولا الأبوان ولا سائر الناس، لأن عجز الخلق عن مثل هذا التركيب معلوم بالضرورة فلا بد من موجد يخالف هذه الموجودات حتى يصح منه إيجاد هذه الأشخاص إلا أن لقائل أن يقول هاهنا : لم لا يجوز أن يكون المؤثر طبائع الفصول والأفلاك والنجوم؟ ولما كان هذا السؤال محتملًا ذكر اللّه تعالى عقيبه ما يدل على افتقار هذه الأشياء إلى المحدث والموجد وهو قوله : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وهو المراد من دلائل الآفاق ويندرج فيها كل ما يوجد من تغييرات أحوال العالم من الرعد والبرق والرياح والسحاب واختلاف الفصول، وحاصلها يرجع إلى أن الأجسام الفلكية والأجسام العنصرية مشتركة في الجسمية، فاختصاص بعضها ببعض الصفات من المقادير والأشكال والأحياز لا يمكن أن يكون للجسمية ولا لشيء من لوازمها. وإلا وجب