مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٣٥
تعالى لما أعطاهم القدرة على الخير والشر وخلق لهم العقول الهادية وأزاح أعذارهم، فكل من فعل بغيره ذلك فإنه يرجو منه حصول المقصود، فالمراد من لفظة لعل فعل ما لو فعله غيره لكان موجباً للرجاء.
خامسها : قال القفال : لعل مأخوذ من تكرر الشيء كقولهم عللا بعد نهل، واللام فيها هي لام التأكيد كاللام التي تدخل في لقد، فأصل لعل عل، لأنهم يقولون علك أن تفعل كذا، أي / لعلك، فإذا كانت حقيقته التكرير والتأكيد كان قول القائل : افعل كذا لعلك تظفر بحاجتك معنا. افعله فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه.
البحث الثاني : أن لقائل أن يقول : إذا كانت العبادة تقوى فقوله : اعْبُدُوا رَبَّكُمُ... لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ جار مجرى قوله : اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون. أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، والجواب من وجهين : الأول : لا نسلم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى، لأن الاتقاء هو الاحتراز عن المضار، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز عن المضار بل يوجب الاحتراز، فكأنه تعالى قال : اعبدوا ربكم لتحترزوا به عن عقابه، وإذا قيل في نفس الفعل إنه اتقاء فذلك مجاز لأن الاتقاء غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لاتصال أحد الأمرين بالآخر أجرى اسمه عليه. الثاني : أنه تعالى إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا على ما قال : وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات : ٥٦] فكأنه تعالى أمر بعبادة الرب الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة.
المسألة السادسة : قرأ أبو عمرو : خلقكم بالإدغام وقرأ أبو السميفع : وخلق من قبلكم وقرأ زيد بن علي :
والذين من قبلكم. قال صاحب «الكشاف» : الوجه فيه أنه أفحم الموصول الثاني بين الأول وصلته تأكيداً كما أقحم جرير في قوله :
يا تيم تيم عدي لا أبا لكموا تيما الثاني بين الأول وما أضيف إليه
أما قوله تعالى : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ «الذي» وهو موصول مع صلته، إما أن يكون في محل النصب وصفاً للذي خلقكم أو على المدح والتعظيم، وإما أن يكون رفعاً على الابتداء، وفيه ما في النصب من المدح.
المسألة الثانية :«الذي» كلمة موضوعة للإشارة إلى مفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة، كقولك ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الذي، وهو تحقيق قولهم. إنه مستعمل لوصف المعارف بالجملة، إذا ثبت هذا فقوله : الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً والسماء بناء وذلك تحقيق قوله تعالى : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان : ٢٥، الزمر : ٣٨].
المسألة الثالثة : أن اللّه تعالى ذكر هاهنا خمسة أنواع من الدلائل اثنين من الأنفس وثلاثة من الآفاق، فبدأ أولًا : بقوله : خَلَقَكُمْ وثانياً : بالآباء والأمهات، وهو قوله : وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وثالثاً : بكون الأرض فراشاً، ورابعاً : يكون السماء بناء، وخامساً : بالأمور الحاصلة من مجموع السماء / والأرض، وهو قوله :
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ ولهذا الترتيب أسباب. الأول : أن أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه، وعلم الإنسان بأحوال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره، وإذا كان الغرض من الاستدلال إفادة


الصفحة التالية
Icon