مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٦٣
ربهم، من كانت له أذن تسمع فليسمع، وأضرب لكم مثلًا آخر يشبه ملكوت السماء : لو أن رجلًا أخذ حبة من خردل وهي أصغر الحبوب وزرعها في قريته، فلما نبتت عظمت حتى صارت كأعظم شجرة من البقول وجاء طير من السماء فعشش في فروعها فكذلك الهدى من دعا إليه ضاعف اللّه أجره وعظمه ورفع ذكره، ونجى من اقتدى به، وقال : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرج الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم، وقال : قلوبكم كالحصاة التي لا تنضجها النار ولا يلينها الماء ولا تنسفها الرياح، وقال لا تدخروا ذخائركم حيث السوس والأرضة فتفسدها، ولا في البرية حيث السموم اللصوص فتحرقها السموم وتسرقها اللصوص ولكن ادخروا ذخائركم عند اللّه وقال : نحفر فنجد دواب عليها لباسها وهناك بلباسهن وأرزاقهن إلا اللّه؟ أفلا تعقلون، وقال : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم ولا تخاطبوا السفهاء فيشتموكم، فظهر أن اللّه تعالى ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة وأما العقل فلأن من طبع الخيال المحاكاة والتشبه فإذا ذكر المعنى وحده أدركه العقل ولكن مع منازعة الخيال، وإذا ذكر معه الشبه أدركه العقل مع معاونة الخيال، ولا شك أن الثاني يكون أكمل وأيضاً فنحن نرى أن الإنسان يذكر معنى ولا يلوح له كما ينبغي فإذا ذكر المثال اتضح وصار مبيناً مكشوفاً، وإن كان التمثيل يفيد زيادة البيان والوضوح، وجب ذكره في الكتاب الذي لا يراد منه إلا الإيضاح والبيان، أما قولهم : ضرب الأمثال بهذه الأشياء الحقيرة لا يليق باللّه تعالى، قلنا هذا جهل، لأنه تعالى هو الذي خلق الصغير والكبير وحكمه في كل ما خلق وبرأ عام لأنه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخف عليه من الكبير والعظيم أصعب من الصغير، وإذا كان الكل بمنزلة واحدة لم يكن الكبير أولى أن يضربه مثلًا لعباده من الصغير بل المعتبر فيه ما يليق بالقصة، فإذا كان الأليق بها الذباب
والعنكبوت يضرب المثل بهما لا بالفيل والجمل، فإذا أراد تعالى أن يقبح عبادتهم الأصنام وعدولهم عن عبادة الرحمن صلح أن يضرب المثل / بالذباب، ليبين أن قدر مضرتها لا يندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل لبيت العنكبوت ليبين أن عبادتها أوهن وأضعف من ذلك وفي مثل ذلك كل ما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح.
المسألة الرابعة : قال الأصم :«ما» في قوله مثلًا ما صلة زائدة كقوله : فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ [آل عمران : ١٥٩] وقال أبو مسلم معاذ اللّه أن يكون في القرآن زيادة ولغو والأصح قول أبي مسلم لأن اللّه تعالى وصف القرآن بكونه هدى وبياناً وكونه لغواً ينافي ذلك، وفي بعوضة قراءتان : إحداهما : النصب وفي لفظة ما على هذه القراءة وجهان : الأول : أنها مبنية وهي التي إذا قرنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شيوعاً وبعداً عن الخصوصية. بيانه أن الرجل إذا قال لصاحبه أعطني كتاباً أنظر فيه فأعطاه بعض الكتب صح له أن يقول أردت كتاباً آخر ولم أرد هذا ولو قاله مع ما لم يصح له ذلك لأن تقدير الكلام أعطني كتاباً أي كتاب كان. الثاني : أنها نكرة قام تفسيرها باسم الجنس مقام الصفة، أما على قراءة الرفع ففيها وجهان : الأول : أنها موصولة صلتها الجملة لأن التقدير هو بعوضة فحذف المبتدأ كما حذف في تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ [الأنعام : ١٥٤].
الثاني : أن تكون استفهامية فإنه لما قال : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا كأنه قال بعده ما بعوضة فما فوقها حتى يضرب المثل به، بل له أن يمثل بما هو أقل من ذلك كثيراً كما يقال فلان لا يبالي بما وهب، ما دينار وديناران، أي يهب ما هو أكثر من ذلك بكثير.
المسألة الخامسة : قال صاحب «الكشاف» : ضرب المثل اعتماده وتكوينه من ضرب اللبن وضرب الخاتم.