مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٦٦
للاشتراك. إذا ثبت هذا فنقول قولنا : أضله اللّه لا يمكن حمله إلا على وجهين : أحدهما : أنه صيره ضالًا، والثاني : أنه وحده ضالًا أما التقدير الأول وهو أنه صيره ضالًا فليس في اللفظ دلالة على أنه تعالى صيره ضالًا عما ذا وفيه وجهان : أحدهما : أنه صيره ضالًا عن الدين. والثاني : أنه صيره ضالًا عن الجنة، أما الأول وهو أنه تعالى صيره ضالًا عن الدين فاعلم أن معنى الإضلال عن الدين في اللغة هو الدعاء إلى ترك الدين وتقبيحه في عينه وهذا هو الإضلال الذي أضافه اللّه تعالى إلى إبليس فقال : إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص : ١٥] وقال :
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [النساء : ١١٩] وقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا [فصلت : ٢٩] وقال : زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ [النمل : ٢٤، العنكبوت : ٣٨]، وقال الشيطان إلى قوله : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم : ٢٢] وأيضاً أضاف اللّه تعالى هذا الإضلال إلى فرعون فقال : وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى [طه : ٧٩] واعلم أن الأمة مجمعة على أن الإضلال بهذا المعنى لا يجوز على اللّه تعالى لأنه تعالى ما دعا إلى الكفر وما رغب فيه بل نهى عنه وزجر وتوعد بالعقاب عليه، وإذا كان المعنى الأصلي للإضلال في اللغة ليس إلا هذا وهذا المعنى منفي بالإجماع ثبت انعقاد الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللفظ على ظاهره.
وعند هذا افتقر أهل الجبر والقدر إلى التأويل أما أهل الجبر فقد حملوه على أنه تعالى خلق الضلال والكفر فيهم وصدهم عن الإيمان وحال بينهم وبينه، وربما قالوا هذا هو حقيقة اللفظ في أصل اللغة، لأن الإضلال عبارة عن جعل الشيء ضالًا كما أن الإخراج والإدخال عبارة عن جعل الشيء خارجاً وداخلًا، وقالت المعتزلة هذا التأويل غير جائز لا بحسب الأوضاع اللغوية ولا بحسب الدلائل العقلية، أما الأوضاع اللغوية فبيانه من وجوه : أحدها :
أنه لا يصح من طريق اللغة أن يقال لمن منع غيره من سلوك الطريق كرهاً وجبراً أنه أضله بل يقال منعه منه وصرفه عنه وإنما يقولون إنه أضله عن الطريق إذا لبس عليه وأورد من الشبهة ما يلبس عليه الطريق فلا يهتدي له، وثانيها : أنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكونهما مضللين، مع أن فرعون وإبليس ما كان خالقين للضلال في قلوب المستجيبين لهما بالاتفاق، وأما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد، فلما حصل اسم المضل حقيقة مع نفي الخالقية بالاتفاق، علمنا أن اسم المضل غير موضوع في اللغة لخالق الضلال : وثالثها : أن الإضلال في مقابلة الهداية فكما صح أن يقال هديته فما اهتدى وجب صحة أن يقال أضللته فما ضل، وإذا كان كذلك استحال حمل الإضلال على خلق الضلال، وأما بحسب الدلائل العقلية / فمن وجوه : أحدها : أنه تعالى لو خلق الضلال في العبد ثم كلفه بالإيمان لكان قد كلفه بالجمع بين الضدين وهو سفه وظلم، وقال تعالى : وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت : ٤٦] وقال : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : ٢٨٦] وقال : وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج : ٧٨] وثانيها : لو كان تعالى خالقاً للجهل وملبساً على المكلفين لما كان مبيناً لما كلف العبد به، وقد أجمعت الأمة على كونه تعالى مبيناً، وثالثها : أنه تعالى لو خلق فيهم الضلال وصدهم عن الإيمان لم يكن لإنزال الكتب عليهم وبعثة الرسل إليهم فائدة لأن الشيء الذي لا يكون ممكن الحصول كان السعي في تحصيله عبثاً وسفهاً.
ورابعها : أنه على مضادة كبيرة من الآيات نحو قوله : فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الانشقاق : ٢٠] فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ [المدثر : ٤٩]، وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا [الإسراء : ٩٤] فبين أنه لا مانع لهم من الإيمان ألبتة. وإنما امتنعوا لأجل


الصفحة التالية
Icon