مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٧٢
أي يجده ضالًا قد بينا أن إثبات هذه اللغة لا دليل عليه وأيضاً فلأنه عدى الإضلال بحرف الباء فقال : يُضِلُّ بِهِ والإضلال بمعنى الوجدان لا يكون معدى بحرف الباء. وأما التأويل الثامن : فهو في هذه الآية يوجب تفكيك النظم لأنه إلى قوله : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً من كلام الكفار ثم قوله : وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ كلام اللّه تعالى من غير فصل بينهما بل مع حرف العطف وهو الواو، ثم هب أنه هاهنا كذلك لكنه في سورة المدثر وهو قوله : كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ لا شك أنه قول اللّه تعالى فهذا هو الكلام في الإضلال.
أما الهدى فقد جاء على وجوه : أحدها : الدلالة والبيان قال تعالى : أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا [السجدة : ٢٦] وقال : فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ [البقرة : ٣٨] وهذا إنما يصح لو كان الهدى عبارة عن البيان وقال : إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى [النجم : ٢٣] وقال : إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان : ٣] أي سواء شكر أو كفر فالهداية قد جاءته في الحالتين وقال : وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى [فصلت : ١٧] وقال : ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ [الأنعام : ١٥٤] وهذا لا يقال للمؤمن وقال تعالى حكاية عن خصوم داود عليه السلام : وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ [ص : ٢٢] أي أرشدنا وقال : إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ [محمد : ٢٥] وقال : أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ الزمر : ٥٦] إلى قوله : أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر : ٥٧] إلى قوله : بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ [الزمر : ٥٩] أخبر أنه قد هدى الكافر مما جاءه من الآيات وقال : أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الأنعام : ١٥٧] وهذه مخاطبة للكافرين.
وثانيها : قالوا في قوله : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى : ٥٢] أي لتدعو وقوله : وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد : ٧] أي داع يدعوهم إلى ضلال أو هدى. وثالثها : التوفيق من اللّه بالألطاف المشروطة بالإيمان يؤتيها المؤمنين جزاء على إيمانهم ومعونة عليه وعلى الازدياد من طاعته، فهذا ثواب لهم وبإزائه ضده للكافرين وهو أن يسلبهم ذلك فيكون مع أنه تعالى ما هداهم يكون قد أضلهم، والدليل على هذا الوجه قوله تعالى :
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد : ١٧]، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً [مريم : ٧٦]، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران : ٨٦]، يُثَبِّتُ اللَّهُ / الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ [إبراهيم : ٢٧]، كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [آل عمران : ٨٦] فأخبر أنه لا يهديهم وأنهم قد جاءهم البينات، فهذا الهدى غير البيان لا محالة، وقال تعالى : وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن : ١١] أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة : ٢٢]. ورابعها : الهدى إلى طريق الجنة قال تعالى : فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [النساء : ١٧٥] وقال : قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة : ١٥، ١٦] وقال : وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ