مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٧٥
المؤمنين فهم انقطعوا عن المؤمنين واتصلوا بالكفار فذاك هو المراد من قوله : وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وثالثها : أنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن وهم كانوا مشتغلين بذلك.
المسألة العشرون : أما قوله تعالى : وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فالأظهر أن يراد به الفساد الذي يتعدى دون ما يقف عليهم. والأظهر أن المراد منه الصد عن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام لأن تمام الصلاح في الأرض بالطاعة لأن بالتزام الشرائع يلتزم الإنسان كل ما لزمه، ويترك التعدي إلى الغير، ومنه زوال التظالم وفي زواله العدل الذي قامت به السموات والأرض، قال تعالى فيما حكى عن فرعون أنه قال : إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر : ٢٦] ثم إنه سبحانه وتعالى أخبر أن من فعل هذه الأفاعيل خاسر فقال : أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ وفي هذا الخسران وجوه : أحدها : أنهم خسروا نعيم الجنة لأنه لا أحد إلا وله في الجنة أهل ومنزل، فإن أطاع اللّه وجده، وإن عصاه ورثه المؤمنون، فذلك قوله تعالى : أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ [المؤمنون : ١٠- ١١] وقال : إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ [الشورى : ٤٥] وثانيها : أنهم خسروا حسناتهم التي عملوها لأنهم أحبطوها بكفرهم فلم يصل لهم منها خير ولا ثواب، والآية في اليهود ولهم أعمال في شريعتهم، وفي المنافقين وهم يعملون في الظاهر ما يعمله المخلصون فحبط ذلك كله، وثالثها : أنهم إنما أصروا على الكفر خوفاً من أن تفوتهم اللذات العاجلة، ثم إنها تفوتهم إما عند ما يصير الرسول صلى اللّه عليه وسلم مأذوناً في الجهاد أو عند موتهم، وقال القفال رحمه اللّه تعالى :
وبالجملة أن الخاسر اسم عام يقع على كل من عمل عملًا لا يجزي عليه فيقال له خاسر، كالرجل الذي إذا تعنى وتصرف في أمر فلم يحصل منه على نفع قيل له خاب وخسر لأنه كمن أعطى شيئاً ولم يأخذ بإزائه ما يقوم مقامه، فسمى الكفار الذين يعملون بمعاصي اللّه خاسرين قال تعالى : إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [العصر : ٢، ٣] وقال : قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [الكهف : ١٠٣، ١٠٤] واللّه أعلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد إلى هذا الموضع فمن هذه الموضع إلى قوله : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة : ٤٠] في شرح النعم التي عمت جميع المكلفين وهي أربعة : أولها : نعمة الإحياء وهي المذكورة في هذه الآية. واعلم أن قوله : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وإن كان بصورة الاستخبار فالمراد به التبكيت والتعنيف، لأن عظم النعمة يقتضي عظم معصية المنعم، يبين ذلك أن الوالد كلما عظمت نعمته على الولد بأن رباه وعلمه وخرجه وموله وعرضه للأمور الحسان، كانت معصيته لأبيه أعظم، فبين سبحانه وتعالى بذلك عظم ما أقدموا عليه من الكفر، بأن ذكرهم نعمه العظيمة عليهم ليزجرهم بذلك عما أقدموا عليه من التمسك بالكفر ويبعثهم على اكتساب الإيمان، فذكر تعالى من نعمه ما هو الأصل في النعم وهو الإحياء، فهذا هو المقصود الكلي، فإن قيل لم كان العطف الأول بالفاء والبواقي بثم؟ قلنا لأن الإحياء الأول قد يعقب الموت بغير تراخ، وأما الموت فقد تراخى عن الإحياء والإحياء الثاني كذلك متراخ


الصفحة التالية
Icon