مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٨٠
المسألة الثالثة : قيل إنها تدل على حرمة أكل الطين لأنه تعالى خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، ولقائل أن يقول في جملة الأرض ما يطلق عليه أنه في الأرض فيكون جمعاً للموضعين، ولا شك أن المعادن داخلة في ذلك وكذلك عروق الأرض وما يجري مجرى بعض لها ولأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما عداه.
المسألة الرابعة : قوله : خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً يقتضي أنه لا تصح الحاجة على اللّه تعالى وإلا لكان قد فعل هذه الأشياء لنفسه أيضاً لا لغيره، وأما قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فيه مسائل :
المسألة الأولى : الاستواء في كلام العرب قد يكون بمعنى الانتصاب وضده الاعوجاج ولما كان ذلك من صفات الأجسام، فاللّه تعالى يجب أن يكون منزهاً عن ذلك ولأن في الآية ما يدل على فساده لأن قوله : ثُمَّ اسْتَوى يقتضي التراخي ولو كان المراد من هذا الاستواء العلو / بالمكان لكان ذلك العلو حاصلًا أولًا ولو كان حاصلًا أولًا لما كان متأخراً عن خلق ما في الأرض لكن قوله : ثُمَّ اسْتَوى يقتضي التراخي، ولما ثبت هذا وجب التأويل وتقريره أن الاستواء هو الاستقامة يقال استوى العود إذا قام واعتدل ثم قيل استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصداً مستوياً من غير أن يلتفت إلى شيء آخر ومنه استعير قوله : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي خلق بعد الأرض السماء ولم يجعل بينهما زماناً ولم يقصد شيئاً آخر بعد خلقه الأرض.
المسألة الثانية :[في تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين ] قوله تعالى : هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ مفسر بقوله : قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت : ٩، ١٠] بمعنى تقدير الأرض في يومين وتقدير الأقوات في يومين آخرين كما يقول القائل من الكوفة إلى المدينة عشرون يوماً، وإلى مكة ثلاثون يوماً يريد أن جميع ذلك هو هذا القدر ثم استوى إلى السماء في يومين آخرين ومجموع ذلك ستة أيام على ما قال : خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ [الأعراف : ٥٤].
المسألة الثالثة : قال بعض الملحدة هذه الآية تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء وكذا قوله : أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ إلى قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [فصلت : ٩- ١١] وقال في سورة النازعات : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات : ٢٧- ٣٠] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء وذكر العلماء في الجواب عنه وجوهاً : أحدها : يجوز أن يكون خلق الأرض قبل خلق السماء إلا أنه ما دحاها حتى خلق السماء لأن التدحية هي البسط ولقائل أن يقول هذا أمر مشكل من وجهين : الأول : أن الأرض جسم عظيم فامتنع انفكاك خلقها عن التدحية وإذا كانت التدحية متأخرة عن خلق السماء كان خلقها أيضاً لا محالة متأخراً عن خلق السماء. الثاني :
أن قوله تعالى : خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ يدل على أن خلق الأرض وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء لكن خلق الأشياء في الأرض لا يمكن إلا إذا كانت مدحوة فهذه الآية تقتضي تقدم كونها مدحوة قبل خلق السماء وحينئذ يتحقق التناقض. والجواب : أن قوله تعالى : وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات : ٣٠] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدمة على خلق الأرض، وعلى هذا التقدير يزول التناقض، ولقائل أن يقول : قوله تعالى : أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها