مفاتيح الغيب، ج ٢، ص : ٣٩١
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ
والجواب عن الشبهة الأولى أن نقول : أما الوجه الأول وهو قولهم أنهم اعترضوا على اللّه تعالى وهذا من أعظم الذنوب فنقول إنه ليس غرضهم من ذلك السؤال تنبيه اللّه على شيء كان غافلًا عنه، فإن من اعتقد ذلك في اللّه فهو كافر، ولا الإنكار على اللّه تعالى في فعل فعله، بل المقصود من ذلك السؤال أمور :
أحدها : أن الإنسان إذا كان قاطعاً بحكمة غيره ثم رأى أن ذلك الغير يفعل فعلًا لا يقف على وجه الحكمة فيه فيقول له أتفعل هذا! كأنه يتعجب من كمال حكمته وعلمه، ويقول إعطاء هذه النعم لمن يفسد من الأمور التي لا تهتدي العقول فيها إلى وجه الحكمة فإذا كنت تفعلها وأعلم أنك لا تفعلها إلا لوجه دقيق وسر غامض أنت مطلع عليه فما أعظم حكمتك وأجل علمك فالحاصل أن قوله : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها كأنه تعجب من كمال علم اللّه تعالى وإحاطة حكمته بما خفي على كل العقلاء. وثانيها : أن إيراد الإشكال طلباً للجواب غير محذور فكأنهم قالوا إلهنا أنت الحكيم الذي لا يفعل السفه ألبتة ونحن نرى في العرف أن تمكين السفيه من السفه سفه فإذا خلقت قوماً يفسدون ويقتلون وأنت مع علمك أن حالهم كذلك خلقتهم ومكنتهم وما منعتهم عن ذلك فهذا يوهم السفه وأنت الحكيم المطلق فكيف يمكن الجمع بين الأمرين فكأن الملائكة أوردوا هذا السؤال طلباً للجواب، وهذا جواب المعتزلة قالوا : وهذا يدل على أن الملائكة لم يجوزوا صدور القبيح من اللّه تعالى وكانوا على مذهب أهل العدل قالوا والذي يؤكد هذا الجواب وجهان : أحدهما : أنهم أضافوا الفساد وسفك الدماء إلى المخلوقين لا إلى الخالق.
والثاني : أنهم قالوا : وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ لأن التسبيح تنزيه ذاته عن صفة الأجسام والتقديس تنزيه أفعاله عن صفة الذم ونعت السفه، وثالثها : أن الشرور وإن كانت حاصلة في تركيب هذا العالم السفلي إلا أنها من لوازم الخيرات الحاصلة فيه وخيراتها غالبة على شرورها وترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير فالملائكة ذكروا تلك الشرور، فأجابهم اللّه تعالى بقوله : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ يعني أن الخيرات الحاصلة من أجل تراكيب العالم السفلي أكثر من الشرور الحاصلة فيها والحكمة تقتضي إيجاد ما هذا شأنه لا تركه وهذا جواب الحكماء. ورابعها : أن سؤالهم كان على وجه المبالغة في إعظام اللّه تعالى فإن العبد المخلص لشدة حبه لمولاه يكره أن يكون له عبد يعصيه. وخامسها : أن قول الملائكة :
أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها مسألة منهم / أن يجعل الأرض أو بعضها لهم إن كان ذلك صلاحاً فكأنهم قالوا :
يا إلهنا اجعل الأرض لنا لا لهم كما قال موسى عليه السلام : أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا [الأعراف : ١٥٥] والمعنى لا تهلكنا فقال تعالى : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ من صلاحكم وصلاح هؤلاء الذين أجعلهم في الأرض فبين ذلك أنه اختار لهم السماء خاصة ولهؤلاء الأرض خاصة لعلمه بصلاح ذلك في أديانهم ليرضى كل فريق بما اختاره اللّه له. وسادسها : أنهم طلبوا الحكمة التي لأجلها خلقهم مع هذا الفساد والقتل، وسابعها : قال القفال يحتمل أن اللّه تعالى لما أخبرهم أنه يجعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها، أي ستفعل ذلك فهو إيجاب خرج مخرج الاستفهام قال جرير :
ألستم خير من ركب المطايا وأندى العالمين بطون راح
أي أنتم كذلك. ولو كان استفهاماً لم يكن مدحاً، ثم قالت الملائكة إنك تفعل ذلك ونحن مع هذا نسبح بحمدك ونقدس لما أنا نعلم أنك لا تفعل إلا الصواب والحكمة فلما قالوا ذلك قال اللّه تعالى لهم : إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ كأنه قال واللّه أعلم نعم ما فعلتم حيث لم تجعلوا ذلك قادحاً في حكمتي فإني أعلم ما لا تعلمون


الصفحة التالية
Icon