مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٢٩٦
لهذه الأعضاء والآلات، فثبت بهذه الوجوه أن الإنسان شيء مغاير لهذه البنية ولهذا الجسد.
إذا ثبت هذا فنقول : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ المراد من العبد جوهر الروح وعلى هذا التقدير فلم يبقى في الآية دلالة على حصول الإسراء بالجسد.
فإن قالوا : فالإسراء بالروح ليس بأمر مخالف للعادة، فلا يليق به أن يقال : سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ.
قلنا : هذا أيضا بعيد، لأنه لا يبعد أن يقال : إنه حصل لروحه من أنواع المكاشفات والمشاهدات ما لم يحصل لغيره ألبتة، فلا جرم كان هذا الكلام لائقا به، فهذا تقرير وجه السؤال على الاستدلال بهذه الآية في إثبات المعراج بالروح والجسد معا.
والجواب : أن لفظ العبد لا يتناول إلا مجموع الروح والجسد، والدليل عليه قوله تعالى : أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق : ٩، ١٠] ولا شك أن المراد من العبد هاهنا مجموع الروح والجسد. وقال أيضا في سورة الجن : وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً [الجن : ١٩] والمراد مجموع الروح والجسد فكذا هاهنا، وأما الخبر فهو الحديث المروي في الصحاح وهو مشهور وهو يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات، واحتج المنكرون له بوجوه : أحدها : بالوجوه العقلية وهي ثلاثة :
أولها : أن الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة. وثانيها : أن صعود الجرم الثقيل إلى السموات غير معقول. وثالثها : أن صعوده إلى السموات يوجب انحراق الأفلاك، وذلك محال.
والشبهة الثانية : أن هذا المعنى لو صح لكان أعظم من سائر المعجزات وكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع الناس حتى يستدلوا به على صدقه في ادعاء النبوة، فأما أن يحصل ذلك في وقت لا يراه أحد ولا يشاهده أحد، فإنه يكون ذلك عبثا، وذلك لا يليق بالحكيم.
والشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء : ٦٠] وما تلك الرؤيا إلا حديث المعراج، وإنما كان فتنة للناس؟ لأن كثيرا ممن آمن به لما سمع هذا الكلام كذبه وكفر / به فكان حديث المعراج سببا لفتنة الناس، فثبت أن ذلك رؤيا رآه في المنام.
الشبهة الرابعة : أن حديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة، منها ما روي من شق بطنه وتطهيره بماء زمزم وهو بعيد، لأن الذي يمكن غسله بالماء هو النجاسات العينية ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة والأخلاق المذمومة، ومنها ما روي من ركوب البراق وهو بعيد، لأنه تعالى لما سيره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأي حاجة إلى البراق، ومنها ما
روي أنه تعالى أوجب خمسين صلاة ثم إن محمدا صلّى اللّه عليه وسلم لم يزل يتردد بين اللّه تعالى وبين موسى إلى أن عاد الخمسون إلى خمس بسبب شفقة موسى عليه الصلاة والسلام.
قال القاضي : وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضوره، وأنه يوجب البداء وذلك على اللّه تعالى محال، فثبت أن ذلك الحديث مشتمل على ما لا يجوز قبوله فكان مردودا.
والجواب عن الوجوه العقلية قد سبق فلا نعيدها.
والجواب عن الشبهة الثانية : ما ذكره اللّه تعالى وهو قوله : لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا وهذا كلام مجمل وفي


الصفحة التالية
Icon