مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٠٣
التكذيب لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد اللّه عليهم بالتعذيب على أيدي العرب فجرى على بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية لا ملك لهم ولا سلطان.
ثم قال تعالى : وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً والحصير فعيل فيحتمل أن يكون بمعنى الفاعل، أي وجعلنا جهنم حاصرة لهم، ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول، أي جعلناها موضعا محصورا لهم، والمعنى أن عذاب الدنيا وإن كان شديدا قويا إلا أنه قد يتفلت بعض الناس عنه، والذي يقع في ذلك العذاب يتخلص عنه، إما بالموت وإما بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة فإنه يكون حاصرا للإنسان محيطا به لا رجاء في الخلاص عنه، فهؤلاء الأقوام لهم من عذاب الدنيا ما وصفناه ويكون لهم بعد ذلك من عذاب الآخرة ما يكون محيطا بهم من جميع الجهات ولا يتخلصون منه أبدا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ إلى ١٠]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)
اعلم أنه تعالى لما شرح ما فعله في حق عباده المخلصين وهو الإسراء برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وإيتاء الكتاب لموسى عليه الصلاة والسلام، وما فعله في حق العصاة والمتمردين وهو تسليط أنواع البلاء عليهم، كان ذلك تنبيها على أن طاعة اللّه توجب كل خير وكرامة ومعصيته توجب كل بلية وغرامة، لا جرم أثنى على القرآن فقال :
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ.
واعلم أن قوله تعالى : دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [الأنعام : ١٦١] يدل على كون هذا الدين مستقيما، وقوله في هذه الآية : لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يدل على أن هذا الدين أقوم من سائر الأديان. وأقول : قولنا هذا الشيء أقوم من ذاك، إنما يصح في شيئين يشتركان في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية، وهذا محال لأن المراد من كونه مستقيما كونه حقا وصدقا، ودخول التفاوت في كون الشيء حقا وصدقا محال، فكان وصفه بأنه أقوم مجازا، إلا أن لفظ الأفعل قد جاء بمعنى الفاعل كقولنا : اللّه أكبر أي اللّه كبير، وقولنا : الأشج والناقص أعدلا بني مروان، أي : عادلا بني مروان، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف. واللّه أعلم.
البحث الثاني : قوله : لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ نعت لموصوف محذوف، والتقدير : يهدي للملة أو الشريعة أو الطريقة التي هي أقوم الملل والشرائع والطرق، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن كقوله : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [فصلت : ٣٤] أي بالخصلة التي هي أحسن.
أما قوله : وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً فاعلم أنه تعالى وصف القرآن بثلاثة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : أنه يهدي للتي هي أقوم، وقد مر تفسيره.
والصفة الثانية : أنه يبشر الذين يعملون الصالحات بالأجر الكبير، وذلك لأن الصفة الأولى لما دلت على كون القرآن هاديا إلى الاعتقاد الأصوب والعمل الأصلح، وجب أن يظهر لهذا الصواب والصلاح أثر، وذلك هو


الصفحة التالية
Icon