مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٠٥
والقول الثالث : أقول : يحتمل أن يكون المراد : أن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه، مع أن ذلك الشيء يكون منبع شره وضرره، وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه عجولا مغترا بظواهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.
البحث الثالث : القياس إثبات الواو في قوله : وَيَدْعُ إلا أنه حذف في المصحف من الكتابة، لأنه لا يظهر في اللفظ، أما لم تحذف في المعنى لأنها في موضع الرفع، ونظيره : سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق : ١٨] وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ [النساء : ١٤٦] ويَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ [ق : ٤١] فَما تُغْنِ النُّذُرُ [القمر : ٥] ولو كان بالواو والياء لكان صوابا هذا كلام الفراء. وأقول : إن هذا يدل على أنه سبحانه قد عصم هذا القرآن المجيد عن التحريف والتغيير فإن إثبات الياء والواو في أكثر ألفاظ القرآن وعدم إثباتهما في هذه المواضع المعدودة يدل على أن هذا القرآن نقل كما سمع، وأن أحدا لم يتصرف فيه بمقدار فهمه وقوة عقله.
ثم قال تعالى : وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا وفي هذا الإنسان قولان :
القول الأول : آدم عليه السلام، وذلك لأنه لما انتهت الروح إلى سرته نظر إلى جسده فأعجبه فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قوله : وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا.
والقول الثاني : أنه محمول على الجنس، لأن أحدا من الناس لا يعرى عن عجلة، ولو تركها لكان تركها أصلح له في الدين والدنيا، وأقول : بتقدير أن يكون المراد هو القول الأول، كان المقصود عائدا إلى القول الثاني، لأنا إذا حملنا الإنسان على آدم عليه الصلاة والسلام كان المعنى أن آدم الذي كان أصل البشر لما كان موصوفا بهذه العجلة وجب أن تكون هذه صفة لازمة للكل، فكان المقصود عائدا إلى القول الثاني، واللّه أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١٢]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
[في قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ ] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير النظم وجوه :
الوجه الأول : أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من النهار والليل فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، وكما / أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الوقت والزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل.
والوجه الثاني : في تقرير النظم أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، وذلك الأقوم ليس إلا ذكر الدلائل الدالة على التوحيد والنبوة، لا جرم أردفه بذكر دلائل التوحيد، وهو عجائب العالم العلوي والسفلي.
الوجه الثالث : أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة، بين


الصفحة التالية
Icon