مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٠٧
الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصص بعض أجزائه بالنور القوي، وبعض أجزائه بالنور الضعيف، وذلك يدل على أن مدبر العالم فاعل مختار لا موجب بالذات. وأحسن ما ذكره الفلاسفة في الاعتذار عنه، أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء، مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك، فلما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر كالكلف في وجه الإنسان، وهذا لا يفيد مقصود الخصم، لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء فلم ارتكزت تلك الأجرام الظلمانية في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء؟ وبمثل هذا الطريق يتمسك في أحوال الكواكب، وذلك لأن الفلك جرم بسيط متشابه الأجزاء فلم لم يكن حصول جرم الكواكب في بعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب؟ وذلك يدل على أن اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعين من الفلك لأجل تخصيص الفاعل المختار، وكل هذه الدلائل إنما يراد من تقريرها وإيرادها التنبيه على أن المؤثر في العالم فاعل بالاختيار لا موجب بالذات، واللّه أعلم.
أما قوله : وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً ففيه وجهان : الأول : أن معنى كونها مبصرة أي مضيئة وذلك لأن الإضاءة سبب لحصول الإبصار، فأطلق اسم الإبصار على الإضاءة إطلاقا لاسم المسبب على السبب. والثاني :
قال أبو عبيدة يقال : قد أبصر النهار إذا صار الناس يبصرون فيه، كقوله :/ رجل مخبث إذا كان أصحابه خبثاء، ورجل مضعف إذا كانت ذراريه ضعافا، فكذا قوله : وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس : ٦٧]، أي أهله بصراء.
واعلم أنه تعالى ذكر في آيات كثيرة منافع الليل والنهار، قال : وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ : ١٠، ١١] وقال أيضا : جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [القصص : ٧٣].
ثم قال تعالى : لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتبصروا كيف تتصرفون في أعمالكم وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.
واعلم أن الحساب مبني على أربع مراتب : الساعات والأيام والشهور والسنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشهور والأيام والساعات، وبعد هذه المراتب الأربع لا يحصل إلا التكرار كما أنهم رتبوا العدد على أربع مراتب : الآحاد والعشرات والمئات والألوف، وليس بعدها إلا التكرار واللّه أعلم.
ثم قال : وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا والمعنى : أنه تعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد، ومن وجه آخر نعمتان عظيمتان من اللّه تعالى على أهل الدنيا، فلما شرح اللّه تعالى حالهما وفصل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق ومن وجوه النعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلا نافعا وبيانا كاملا، فلا جرم قال : وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي كل شيء بكم إليه حاجة في مصالح دينكم ودنياكم، فقد فصلناه وشرحناه، وهو كقوله تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام : ٣٨] وقوله : وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل : ٨٩] وقوله : تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها [الأحقاف : ٢٥] وإنما ذكر المصدر وهو قوله : تَفْصِيلًا لأجل تأكيد الكلام وتقريره، كأنه قال : وفصلناه حقا وفصلناه على الوجه الذي لا مزيد عليه واللّه أعلم.