مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣١٠
حسيب نفسك. قال السدي : يقول الكافر يومئذ إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له : اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً واللّه أعلم.
المسألة الرابعة : قال حكماء الإسلام : هذه الآية في غاية الشرف، وفيها أسرار عجيبة في أبحاث :
البحث الأول : أنه تعالى جعل فعل العبد كالطير الذي يطير إليه، وذلك لأنه تعالى قدر لكل أحد في الأزل مقدارا من الخير والشر، فذلك الحكم الذي سبق في علمه الأزلي وحكمه الأزلي لا بد وأن يصل إليه، فذلك الحكم كأنه طائر يطير إليه من الأزل إلى ذلك الوقت، فإذا حضر ذلك الوقت وصل إليه ذلك الطائر وصولا لا خلاص له ألبتة ولا انحراف عنه ألبتة. وإذا علم الإنسان في كل قول وفعل ولمحة وفكرة أنه كان ذلك بمنزلة طائر طيره اللّه إليه على منهج معين وطريق معين، وأنه لا بد وأن يصل إليه ذلك الطائر، فعند ذلك عرف أن الكفاية الأبدية لا تتم إلا بالعناية الأزلية.
والبحث الثاني : أن هذه التقديرات إنما تقدرت بإلزام اللّه تعالى وذلك باعتبار أنه تعالى جعل لكل حادث حادثا متقدما عليه لحصول الحادث المتأخر، فلما كان وضع هذه السلسلة من اللّه لا جرم كان الكل من اللّه، وعند هذا يتخيل الإنسان طيورا لا نهاية لها ولا غاية لأعدادها، فإنه تعالى طيرها من وكر الأزل وظلمات عالم الغيب، وأنها صارت وطارت طيرانا لا بداية له ولا غاية له، وكان كل واحد منها متوجها إلى ذلك الإنسان المعين في الوقت المعين بالصفة المعينة، وهذا هو المراد من قوله : أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
البحث الثالث : أن التجربة تدل على أن تكرار الأعمال الاختيارية تفيد حدوث الملكة النفسانية الراسخة في جوهر النفس، ألا ترى أن من واظب على تكرار قراءة درس واحد صار ذلك الدرس محفوظا، ومن واظب على عمل واحد مدة مديدة صار ذلك العمل ملكة له.
إذا عرفت هذا فنقول : لما كان التكرار الكثير يوجب حصول الملكة الراسخة وجب / أن يحصل لكل واحد من تلك الأعمال أثر ما في جوهر النفس، فإنا لما رأينا أن عند توالي القطرات الكثيرة من الماء على الحجر حصلت الثقبة في الحجر، علمنا أن لكل واحد من تلك القطرات أثرا ما في حصول ذلك الثقب وإن كان ضعيفا قليلا، وإن كانت الكتابة أيضا في عرف الناس عبارة عن نقوش مخصوصة اصطلح الناس على جعلها معرفات لألفاظ مخصوصة، فعلى هذا، دلالة تلك النقوش على تلك المعاني المخصوصة دلالة كائنة جوهرية واجبة الثبوت، ممتنعة الزوال، كان الكتاب المشتمل على تلك النقوش أولى باسم الكتاب من الصحيفة المشتملة على النقوش الدالة بالوضع والاصطلاح.
وإذا عرفت هاتين المقدمتين فنقول : إن كل عمل يصدر من الإنسان كثيرا كان أو قليلا قويا كان أو ضعيفا، فإنه يحصل منه لا محالة في جوهر النفس الإنسانية أثر مخصوص، فإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب جوهر الروح من الخلق إلى حضرة الحق كان ذلك من موجبات السعادات والكرامات وإن كان ذلك الأثر أثرا لجذب الروح من حضرة الحق إلى الاشتغال بالخلق كان ذلك من موجبات الشقاوة والخذلان إلا أن تلك الآثار تخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن، لأن اشتغال الروح بتدبير البدن يمنع من انكشاف هذه الأحوال وتجليها وظهورها، فإذا انقطع تعلق الروح عن تدبير البدن فهناك تحصل القيامة
لقوله عليه الصلاة والسلام :«من مات