مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣١٥
فثبت أن الآيات التي تلوناها محكمة، وكذا الآية التي / نحن في تفسيرها، فيجب حمل هذه الآية على تلك الآيات هذا ما قاله الكعبي، واعلم أن أحسن الناس كلاما في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة :
القفال فإنه ذكر فيه وجهين :
الوجه الأول : قال إنه تعالى أخبر أنه لا يعذب أحدا بما يعلمه منه ما لم يعمل به، أي لا يجعل علمه حجة على من علم أنه إن أمره عصاه بل يأمره فإذا ظهر عصيانه للناس فحينئذ يعاقبه فقوله : وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
معناه : وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم أمرنا المتنعمين المتعززين الظانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم ترد عنهم بأسنا بالإيمان بي والعمل بشرائع ديني على ما بلغهم عني رسولي، ففسقوا فحينئذ يحق عليهم القضاء السابق بإهلاكهم لظهور معاصيهم فحينئذ دمرناها، والحاصل أن المعنى :
وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف في تحقيق ذلك الإهلاك بمجرد ذلك العلم، بل أمرنا مترفيها ففسقوا، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق فحينئذ نوقع عليهم العذاب الموعود به.
والوجه الثاني : في التأويل أن نقول : وإذا أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها لم نعاجلهم بالعذاب في أول ظهور المعاصي منهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي، وإنما خص المترفين بذلك الأمر، لأن المترف هو المتنعم ومن كثرت نعم اللّه عليه كان قيامه بالشكر أوجب، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع مرة بعد أخرى مع أنه تعالى لا يقطع عنهم تلك النعم بل يزيدها حالا بعد حال فحينئذ يظهر عنادهم وتمردهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحق، فحينئذ يصب اللّه البلاء عليهم صبا، ثم قال القفال :
وهذان التأويلان راجعان إلى أن اللّه تعالى أخبر عباده أنه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة حتى يعذر إليهم غاية الإعذار الذي يقع منه اليأس من إيمانهم، كما قال في قوم نوح : وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح : ٢٧] وقال : أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ [هود : ٣٦] وقال في غيرهم : فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ [يونس : ٧٤] فأخبر تعالى أولا أنه لا يظهر العذاب إلا بعد بعثة الرسول عليه الصلاة والسلام. ثم أخبر ثانيا في هذه الآية أنه إذا بعث الرسول أيضا فكذبوا لم يعاجلهم بالعذاب، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ، فإن بقوا مصرين على الذنوب فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال، وهذا التأويل الذي ذكره القفال في تطبيق الآية على قول المعتزلة لم يتيسر لأحد من شيوخ المعتزلة مثله.
وأجاب الجبائي بأن قال : ليس المراد من الآية أنه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقوا، وذلك لأنه ظلم وهو على اللّه محال، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة فكان التقدير وإذا قرب وقت إهلاك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها وهو كقول القائل : إذا أراد المريض أن يموت / ازدادت أمراضه شدة، وإذا أراد التاجر أن يفتقر أتاه الخسران من كل جهة، وليس المراد أن المريض يريد أن يموت، والتاجر يريد أن يفتقر وإنما يعنون أنه سيصير كذلك فكذا هاهنا.
واعلم أن جميع الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في التمسك بهذه الآية، لا شك أن كلها عدول عن ظاهر اللفظ، أما الوجه الثاني والثالث فقد بقي سليما عن الطعن واللّه أعلم.
المسألة الثالثة : المشهور عند القراء السبعة : أَمَرْنا مُتْرَفِيها
بالتخفيف غير ممدودة الألف، وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس : آمرنا بالمد، وعن أبي عمرو أَمَرْنا
بالتشديد فالمد على الكثير


الصفحة التالية
Icon