مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٢١
اعلم أنه لما ذكر في الآية الأولى ما هو الركن الأعظم في الإيمان، أتبعه بذكر ما هو من شعائر الإيمان وشرائطه وهي أنواع :
النوع الأول : أن يكون الإنسان مشتغلا بعبادة اللّه تعالى، وأن يكون محترزا عن عبادة غير اللّه تعالى، وهذا هو المراد من قوله : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وفيه بحثان :
البحث الأول : القضاء معناه الحكم الجزم البت الذي لا يقبل النسخ والدليل عليه أن الواحد منا إذا أمر غيره بشيء فإنه لا يقال : إنه قضى عليه، أما إذا أمره أمرا جزما وحكم عليه بذلك الحكم على سبيل البت والقطع، فههنا يقال : قضى عليه ولفظ القضاء في أصل اللغة يرجع إلى إتمام الشيء / وانقطاعه. وروى ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية كان الأصل ووصى ربك فالتصقت إحدى الواوين بالصاد فقرىء : وَقَضى رَبُّكَ ثم قال : ولو كان على القضاء ما عصى اللّه أحد قط، لأن خلاف قضاء اللّه ممتنع، هكذا رواه عنه الضحاك وسعيد بن جبير، وهو قراءة علي وعبد اللّه.
واعلم أن هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن، ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان عن القرآن وذلك يخرجه عن كونه حجة ولا شك أنه طعن عظيم في الدين.
البحث الثاني : قد ذكرنا أن هذه الآية تدل على وجوب عبادة اللّه تعالى وتدل على المنع عن عبادة غير اللّه تعالى وهذا هو الحق، وذلك لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام، ونهاية الإنعام عبارة عن إعطاء الوجود والحياة، والقدرة والشهوة والعقل، وقد ثبت بالدلائل أن المعطي لهذه الأشياء هو اللّه تعالى لا غيره، وإذا كان المنعم بجميع النعم هو اللّه لا غيره، لا جرم كان المستحق للعبادة هو اللّه تعالى لا غيره، فثبت بالدليل العقلي صحة قوله : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٤ إلى ٢٥]
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
[وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً] في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أمر بعبادة نفسه، ثم أتبعه بالأمر ببر الوالدين وبيان المناسبة بين الأمر بعبادة اللّه تعالى وبين الأمر ببر الوالدين من وجوه :
الوجه الأول : أن السبب الحقيقي لوجود الإنسان هو تخليق اللّه تعالى وإيجاده، والسبب الظاهري هو الأبوان، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري.
الوجه الثاني : أن الموجود إما قديم وإما محدث، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية، ومع المحدث بإظهار الشفقة وهو المراد من
قوله عليه السلام :«التعظيم لأمر اللّه والشفقة