مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٢٥
[الأنبياء : ٦٧] وفي الأحقاف : أُفٍّ لَكُما [الأحقاف : ١٧] وأقول : البحث المشكل هاهنا أنا لما نقلنا عشرة أنواع من اللغات في هذه اللفظة، فما السبب في أنهم تركوا أكثر تلك اللغات في قراءة هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟
المسألة الثالثة : ذكروا في تفسير هذه اللفظة وجوها : الأول : قال الفراء : تقول العرب جعل فلان يتأفف من ريح وجدها، معناه يقول : أف أف. الثاني : قال الأصمعي : الأف وسخ الأذن والتف وسخ الظفر يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر حتى استعملوا عند كل ما يتأذون به. الثالث : قال بعضهم أف معناه قلة، وهو مأخوذ من الأفيف وهو الشيء القليل وتف أتباع له، كقولهم : شيطان ليطأن خبيث نبيث. الرابع : روى ثعلب عن ابن الأعرابي : الأف الضجر. الخامس : قال القتبي : أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد نفخت فيه لتزيله والصوت الحاصل عند تلك النفخة هو قولك أف، ثم إنهم توسعوا فذكروا هذه اللفظة عند كل مكروه يصل إليهم. السادس : قال الزجاج : أف معناه النتن وهذا قول مجاهد، لأنه قال معنى قوله :
فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك كنت تخر أو تبول، وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك فلا تقل لهما أف.
المسألة الرابعة : قول القائل : لا تقل لفلان أف، مثل يضرب للمنع من كل مكروه وأذية وإن خف وقل.
واختلف الأصوليون في أن دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالة لفظية أو دلالة مفهومة بمقتضى القياس. قال بعضهم : إنها دلالة لفظية، لأن أهل العرف إذا قالوا : لا تقل لفلان أف عنوا به أنه لا يتعرض له بنوع من أنواع الإيذاء والايحاش، وجرى هذا مجرى قولهم فلان لا يملك نقيرا ولا قطميرا في أنه بحسب العرف يدل على أنه لا يملك شيئا.
والقول الثاني : أن هذا اللفظ إنما يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء بحسب القياس الجلي، وتقريره أن الشرع إذا نص على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى، فإذا أردنا إلحاق الصورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها فهذا على ثلاثة أقسام : أحدها : أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أولى من ثبوته في محل الذكر مثل هذه الصورة، فإن اللفظ إنما دل على المنع من التأفيف، والضرب أولى بالمنع من التأفيف. وثانيها : أن يكون الحكم في محل السكوت مساويا للحكم في محل الذكر، وهذا هو الذي يسميه الأصوليون القياس في معنى الأصل، وضربوا لهذا مثلا وهو
قوله عليه السلام :«من أعتق نصيبا له من عبد قوم عليه الباقي»
فإن الحكم في الأمة والعبد متساويان. وثالثها : أن يكون الحكم في محل السكوت أخفى من الحكم في محل الذكر وهو أكبر القياسات.
إذا عرفت هذا فنقول : المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى. والدليل عليه : أن التأفيف غير الضرب، فالمنع من التأفيف لا يكون منعا من الضرب، وأيضا المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلا، لأن الملك الكبير إذا أخذ ملكا عظيما كان عدوا له، فقد يقول للجلاد إياك وأن تستخف به أو تشافهه بكلمة موحشة لكن اضرب رقبته، وإذا كان هذا معقولا في الجملة علمنا أن المنع من / التأفيف مغاير للمنع من الضرب وغير مستلزم للمنع من الضرب عقلا في الجملة، إلا أنا علمنا في هذه الصورة أن المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين


الصفحة التالية
Icon