مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٢٧
إذا أصبحت بيد الشمال زمامها فأثبت للشمال يدا ووضع زمامها في يد الشمال فكذا هاهنا وقوله : مِنَ الرَّحْمَةِ معناه : ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما.
والنوع الخامس : قوله : وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً وفيه مباحث :
البحث الأول : قال القفال رحمه اللّه تعالى : إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول : رَبِّ ارْحَمْهُما ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. ثم يقول : كَما رَبَّيانِي صَغِيراً يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية، وهي من قولهم ربا الشيء إذا انتفع، ومنه قوله تعالى : فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [فصلت : ٣٩].
البحث الثاني : اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال :
القول الأول : أنها منسوخة بقوله تعالى : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة : ١١٣] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول : رب ارحمهما.
والقول الثاني : أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث : أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان.
البحث الثالث : ظاهر الأمر للوجوب فقوله : وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما أمر وظاهر الأمر لا يفيد التكرار فيكفي في العمل بمقتضي هذه الآية ذكر هذا القول مرة واحدة، سئل سفيان : كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال : نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات كما أن اللّه تعالى قال : يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب : ٥٦] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبي صلّى اللّه عليه وسلم، وكما أن اللّه تعالى قال : وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة : ٢٠٣] فهم يكررون في أدبار الصلوات.
ثم قال تعالى : رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ والمعنى أنا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة للّه تعالى وبالإحسان بالوالدين، ولا يخفى على اللّه ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فاعلموا أن اللّه تعالى مطلع على ما في نفوسكم بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها، لأن علوم البشر قد يختلط بها السهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فأما علم اللّه فمنزه عن كل هذه الأحوال، وإذا كان الأمر كذلك كان عالما بكل ما في قلوبكم والمقصود منه التحذير عن ترك الإخلاص.
ثم قال تعالى : إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي إن كنتم برآء عن جهات الفساد في أحوال قلوبكم كنتم أوابين،