مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٥٠
ما كانوا يرونه، وأخبر اللّه تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أنه جعل بينه وبينهم حجابا مستورا، والحجاب المستور لا معنى له إلا المعنى الذي خلقه اللّه تعالى في عيونهم، وكان ذلك المعنى مانعا لهم من أن يروه ويبصروه.
والوجه الثاني : في الجواب أنه كما يجوز أن يقال لابن وتامر بمعنى ذو لبن وذو تمر فكذلك / لا يبعد أن يقال مستورا معناه ذو ستر والدليل عليه قوله مرطوب أي ذو رطوبة ولا يقال رطيبة ويقال مكان مهول أي فيه هول ولا يقال : هلت المكان بمعنى جعلت فيه الهول، ويقال : جارية مغنوجة ذات غنج ولا يقال غنجتها.
والوجه الثالث : في الجواب قال الأخفش : المستور هاهنا بمعنى الساتر، فإن الفاعل قد يجيء بلفظ المفعول كما يقال : إنك لمشئوم علينا وميمون وإنما هو شائم ويامن، لأنه من قولهم شأمهم ويمنهم، هذا قول الأخفش : وتابعه عليه قوم، إلا أن كثيرا منهم طعن في هذا القول، والحق هو الجواب الأول.
القول الثاني : أن معنى الحجاب الطبع الذي على قلوبهم والطبع والمنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه اللّه في قلوبهم.
ثم قال تعالى : وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وهذه الآية مذكورة بعينها في سورة الأنعام وذكرنا استدلال أصحابنا بها وذكرنا سؤالات المعتزلة ولا بأس بإعادة بعضها قال الأصحاب : دلت هذه الآية على أنه تعالى جعل قلوبهم في الأكنة والأكنة جمع كنان وهو ما ستر الشيء مثل كنان النبل وقوله :
أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفقهوه وجعل في آذانهم وقرا ومعلوم أنهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، فعلمنا أن المراد منعهم عن الإيمان ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره ولا يفهمون دقائقه وحقائقه.
قالت المعتزلة : ليس المراد من الآية ما ذكرتم بل المراد منه وجوه أخرى. الأول : قال الجبائي : كانوا يطلبون موضعه في الليالي لينتهوا إليه ويؤذونه، ويستدلون على مبيته باستماع قراءته فأمنه اللّه تعالى من شرهم، وذكر له أنه جعل بينه وبينهم حجابا لا يمكنهم الوصول إليه معه، وبين أنه جعل في قلوبهم ما يشغلهم عن فهم القرآن وفي آذانهم ما يمنع من سماع صوته، ويجوز أن يكون ذلك مرضا شاغلا يمنعهم من المصير إليه والتفرغ له، لا أنه حصل هناك كن للقلب ووقر في الأذن. الثاني : قال الكعبي : إن القوم لشدة امتناعهم عن قبول دلائل محمد صلّى اللّه عليه وسلم صاروا كأنه حصل بينهم وبين تلك الدلائل حجاب مانع وساتر، وإنما نسب اللّه تعالى ذلك الحجاب إلى نفسه لأنه لما خلاهم مع أنفسهم، وما منعهم عن ذلك الإعراض صارت تلك التخلية كأنها هي السبب لوقوعهم في تلك الحالة، وهذا مثل أن السيد إذا لم يراقب أحوال عبده فإذا ساءت سيرته فالسيد يقول : أنا الذي ألقيتك في هذه الحالة بسبب أني خليتك مع رأيك وما راقبت أحوالك. الثالث : قال القفال : إنه تعالى لما خذلهم بمعنى أنه لم يفعل / الألطاف الداعية لهم إلى الإيمان صح أن يقال : إنه فعل الحجاب الساتر.
واعلم أن هذه الوجوه مع كلمات أخرى ذكرناها في سورة الأنعام وأجبنا عنها، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى : وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً واعلم أن المراد أن القوم كانوا عند استماع القرآن على حالتين، لأنهم إذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر اللّه تعالى بقوا مبهوتين