مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٥٢
اعلم أنه تعالى لما تكلم أولا في الإلهيات ثم أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوات، ذكر في هذه الآية شبهات القوم في إنكار المعاد والبعث والقيامة، وقد ذكرنا كثيرا أن مدار القرآن على المسائل الأربعة وهي : الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر، وأيضا أن القوم وصفوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بكونه مسحورا فاسد العقل، فذكروا من جملة ما يدل على فساد عقله أنه يدعي أن الإنسان بعد ما يصير عظاما ورفاتا فإنه يعود حيا عاقلا كما كان، فذكروا هذا الكلام رواية عنه لتقرير كونه مختل العقل. قال الواحدي رحمه اللّه : الرفت كسر الشيء بيدك، تقول : رفته أرفته بالكسر كما يرفت المدر والعظم البالي، والرفات الأجزاء المتفتتة من كل شيء يكسر. يقال :
رفت عظام الجزور رفتا إذا كسرها، ويقال للتبن : الرفت لأنه دقاق الزرع. قال الأخفش : رفت رفتا، / فهو مرفوت نحو حطم حطما فهو محطوم والرفات والحطام الاسم، كالجذاد والرضاض والفتات، فهذا ما يتعلق باللغة. أما تقرير شبهة القوم : فهي أن الإنسان إذا مات جفت أعضاؤه وتناثرت وتفرقت في حوالي العالم فاختلط بتلك الأجزاء سائر أجزاء العالم. أما الأجزاء المائية في البدن فتختلط بمياه العالم، وأما الأجزاء الترابية فتختلط بتراب العالم، وأما الأجزاء الهوائية فتختلط بهواء العالم، وأما الأجزاء النارية فتختلط بنار العالم وإذا صار الأمر كذلك فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرة أخرى وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى، فهذا هو تقرير الشبهة.
والجواب عنها : أن هذا الإشكال لا يتم إلا بالقدح في كمال علم اللّه وفي كمال قدرته أما إذا سلمنا كونه تعالى عالما بجميع الجزئيات فحينئذ هذه الأجزاء وإن اختلطت بأجزاء العالم إلا أنها متمايزة في علم اللّه تعالى ولما سلمنا كونه تعالى قادرا على كل الممكنات كان قادرا على إعادة التأليف والتركيب والحياة والعقل إلى تلك الأجزاء بأعيانها، فثبت أنا متى سلمنا كمال علم اللّه وكمال قدرته زالت هذه الشبهة بالكلية.
أما قوله تعالى : قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فالمعنى أن القوم استبعدوا أن يردهم إلى حال الحياة بعد أن صاروا عظاما ورفاتا وهي وإن كانت صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر لكن قدروا انتهاء هذه الأجسام بعد الموت إلى صفة أخرى أشد منافاة لقبول الحياة من كونها عظاما ورفاتا مثل أن تصير حجارة أو حديدا، فإن المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة أشد من المنافاة بين العظمية وبين قبول الحياة، وذلك أن العظم قد كان جزءا من بدن الحي أما الحجارة والحديد فما كانا ألبتة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس موصوفة بصفة الحجرية والحديدية بعد الموت، فإن اللّه تعالى يعيد الحياة إليها ويجعلها حيا عاقلا كما كان، والدليل على صحة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل إذ لو لم يكن هذا القبول حاصلا لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر وإله العالم عالم بجميع الجزئيات فلا تشتبه عليه أجزاء بدن زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي وقادر على كل الممكنات، وإذا ثبت أن عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكن في نفسه وثبت أن إله العالم عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنا قطعا، سواء صارت عظاما ورفاتا أو صارت شيئا أبعد من العظم في قبول الحياة وهي أن تصير حجارة أو حديدا، فهذا تقرير هذا الكلام بالدليل العقلي القاطع، وقوله : كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً ليس المراد منه الأمر بل المراد أنكم لو كنتم كذلك لما أعجزتم اللّه تعالى عن الإعادة، وذلك كقول القائل للرجل : أتطمع في وأنا فلان فيقول : كن من شئت كن ابن الخليفة، فسأطلب منك حقي.


الصفحة التالية
Icon