مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٥٨
يَدْعُونَ فعل الآدميين العابدين. وقوله : يَبْتَغُونَ فعل المعبودين ومعناه أولئك المعبودين يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فإنه لا نزاع أن الملائكة يرجعون إلى اللّه في طلب المنافع ودفع المضار ويرجون رحمته ويخافون عذابه وإذا كان كذلك كانوا موصوفين بالعجز والحاجة، واللّه تعالى أغنى الأغنياء فكان الاشتغال بعبادته أولى.
فإن قالوا : لا نسلم أن الملائكة محتاجون إلى رحمة اللّه وخائفون من عذابه، فنقول : هؤلاء الملائكة إما أن يقال : إنها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال : ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطل لأن جميع الكفار كانوا معترفين بأن الملائكة عباد اللّه ومحتاجون إليه، وأما الثاني فهو يوجب القول بكون الملائكة محتاجين في ذواتها وفي كمالاتها إلى اللّه تعالى، فكان الاشتغال بعبادة اللّه أولى من الاشتغال بعبادة الملائكة.
والقول الثاني : أن قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ هم الأنبياء الذين ذكرهم اللّه تعالى بقوله : وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [الإسراء : ٥٥] وتعلق هذا الكلام بما سبق هو أن الذين عظمت منزلتهم وهم الأنبياء لا يعبدون إلا اللّه تعالى ولا يبتغون الوسيلة إلا إليه، فأنتم بالاقتداء بهم حق فلا تعبدوا غير اللّه تعالى. / واحتج القائلون بهذا القول على صحته بأن قالوا : الملائكة لا يعصون اللّه فلا يخافون عذابه، فثبت أن هذا غير لائق بالملائكة وإنما هو لائق بالأنبياء.
قلنا : الملائكة يخافون عذاب اللّه لو أقدموا على الذنب والدليل عليه قوله تعالى : وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ [الأنبياء : ٢٩].
أما قوله : إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً فالمراد أن من حقه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله فهو لا يخرج من كونه بحيث يجب الحذر عنه.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
اعلم أنه تعالى لما قال : إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [الإسراء : ٥٧] بين أن كل قرية مع أهلها فلا بد وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين : إما الإهلاك وإما التعذيب قال مقاتل : أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة فبالعذاب، وقيل : المراد من قوله : وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ قرى الكفار، ولا بد أن تكون عاقبتها أحد أمرين : إما الاستئصال بالكلية وهو المراد من الإهلاك أو بعذاب شديد دون ذلك من قتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال وأخذ الجزية، ثم بين تعالى أن هذا الحكم حكم مجزوم به واقع فقال : كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً ومعناه ظاهر.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٩ إلى ٦٠]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)


الصفحة التالية
Icon