مفاتيح الغيب، ج ٢٠، ص : ٣٦٠
قلنا : المقصود أن مدعي النبوة إذا أظهر الآية فإذا سمع الخلق أنه أظهر آية فهم لا يعلمون أن تلك الآية معجزة أو مخوفة، إلا أنهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة فلو لم يتفكروا فيها ولم يستدلوا بها على الصدق لاستحقوا العقاب الشديد، فهذا هو الخوف الذي يحملهم على التفكر والتأمل في تلك المعجزات، فالمراد من قوله : وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً هذا الذي ذكرناه، واللّه أعلم.
واعلم أن القوم لما طالبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بالمعجزات القاهرة، وأجاب اللّه تعالى بأن إظهارها ليس بمصلحة صار ذلك سببا لجرأة أولئك الكفار بالطعن فيه وأن يقولوا له : لو كنت رسولا حقا من عند اللّه تعالى لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها منك، كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء، فعند هذا قوى اللّه قلبه وبين له أنه تعالى ينصره ويؤيده فقال : وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وفيه قولان :
القول الأول : المعنى أن حكمته وقدرته محيطة بالناس فهم في قبضته وقدرته، ومتى كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره، والمقصود كأنه تعالى يقول له : ننصرك ونقويك حتى تبلغ رسالتنا وتظهر ديننا. قال الحسن : حال بينهم وبين أن يقتلوه كما قال تعالى : وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة : ٦٧].
والقول الثاني : أن المراد بالناس أهل مكة وإحاطة اللّه بهم هو أنه تعالى يفتحها للمؤمنين فكان المعنى :
وإذ بشرناك بأن اللّه أحاط بأهل مكة بمعنى أنه يغلبهم ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، ونظيره قوله تعالى :
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر : ٤٥] وقال : قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ [آل عمران : ١٢] إلى قوله : أَحاطَ بِالنَّاسِ لما كان كل ما يخبر اللّه عن وقوعه فهو واجب الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع فلا جرم قال : أَحاطَ بِالنَّاسِ وروي أنه لما تزاحف الفريقان يوم بدر ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في العريش مع أبي بكر كان يدعو ويقول :«اللهم إني أسألك عهدك ووعدك لي» ثم خرج / وعليه الدرع يحرض الناس ويقول :
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ.
ثم قال تعالى : وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وفي هذه الرؤيا أقوال :
القول الأول :
أن اللّه أرى محمدا في المنام مصارع كفار قريش فحين ورد ماء بدر قال :«و اللّه كأني أنظر إلى مصارع القوم» ثم أخذ يقول :«هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان» فلما سمعت قريش ذلك جعلوا رؤياه سخرية، وكانوا يستعجلون بما وعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم.
والقول الثاني : أن المراد رؤياه التي رآها أنه يدخل مكة وأخبر بذلك أصحابه، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية كان ذلك فتنة لبعض القوم، وقال عمر لأبي بكر أليس قد أخبرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أنا ندخل البيت ونطوف به، فقال أبو بكر إنه لم يخبر أنا نفعل ذلك في هذه السنة فسنفعل ذلك في سنة أخرى، فلما جاء العام المقبل دخلها، وأنزل اللّه تعالى : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الفتح : ٢٧] اعترضوا على هذين القولين فقالوا : هذه السورة مكية، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهذا السؤال ضعيف لأن هاتين الواقعتين مدنيتان أما رؤيتهما في المنام فلا يبعد حصولها في مكة.
والقول الثالث :
قال سعيد بن المسيب رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه