مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٣٦٩
والعمل الحق، ومعلوم أن الترغيب في الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا ضرر ألبتة في فعله ومع ذلك فإنه يفيد المنافع العظيمة، والتنفير عن الشيء لا يمكن إلا بأن يقرر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك فيفيد المضار العظيمة، إذا ثبت هذا فنقول : إن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد وأن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعله ألبتة، وذلك إنما يمكن إذا قال لا معاد ولا جنة ولا نار، ولا حياة بعد هذه الحياة، فبهذا الطريق يقرر عنده أنه لا مضرة ألبتة في فعل هذه المعاصي، وإذا فرغ عن هذا المقام قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في هذه الدنيا إلا به، فتفويتها غبن وخسران كما قال الشاعر :
خذوا بنصيب من سرور ولذة فكل وإن طال المدى يتصرم
فهذا هو طريق الدعوة إلى المعصية، وأما طريق التنفير عن الطاعة فهو أن يقرر أولا عنده أنه لا فائدة فيه وتقريره من وجهين. الأول : أن يقول لا جنة ولا نار ولا ثواب ولا عذاب. والثاني : أن هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد والمعبود فكانت عبثا محضا فبهذين الطريقين يقرر الشيطان عند الإنسان أنه لا فائدة فيها، وإذا فرغ عن هذا المقام قال إنها توجب التعب والمحنة وذلك أعظم المضار، فهذه مجامع تلبيس الشيطان، فقوله :
وَعِدْهُمْ يتناول كل هذه الأقسام، قال المفسرون قوله : وَعِدْهُمْ أي بأنه لا جنة ولا نار، وقال آخرون :
وَعِدْهُمْ بتسويف التوبة، وقال آخرون وَعِدْهُمْ بالأماني الباطلة مثل قوله لآدم : ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ / أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ [الأعراف : ٢٠] وقال آخرون : وعدهم بشفاعة الأصنام عند اللّه تعالى وبالأنساب الشريفة وإيثار العاجل على الآجل، وبالجملة فهذه الأقسام كثيرة وكلها داخلة في الضبط الذي ذكرناه وإن أردت الاستقصاء في هذا الباب فطالع كتاب ذم الغرور من كتاب إحياء علوم الدين للشيخ الغزالي حتى يحيط عقلك بمجامع تلبيس إبليس، واعلم أن اللّه تعالى لما قال : وَعِدْهُمْ أردفه بما يكون زاجرا عن قبول وعده فقال : وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى أحد أمور ثلاثة قضاء الشهوة وإمضاء الغضب وطلب الرياسة وعلو الدرجة، ولا يدعو ألبتة إلى معرفة اللّه تعالى ولا إلى خدمته، وتلك الأشياء الثلاثة معنوية من وجوه كثيرة. أحدها : أنها في الحقيقة ليست لذات بل هي خلاص عن الآلام. وثانيها : وإن كانت لذات لكنها لذات خسيسة مشترك فيها بين الكلاب والديدان والخنافس وغيرها.
وثالثها : أنها سريعة الذهاب والانقضاء والانقراض. ورابعها : أنها لا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة.
وخامسها : أن لذات البطن والفرج لا تتم إلا بمزاولة رطوبات عفنة مستقذرة. وسادسها : أنها غير باقية بل يتبعها الموت والهرم والفقر والحسرة على الفوت والخوف من الموت فلما كانت هذه المطالب وإن كانت لذيذة بحسب الظاهر إلا أنها ممزوجة بهذه الآفات العظيمة والمخالفات الجسيمة، كان الترغيب فيها تغريرا، ولهذا المعنى قال تعالى : وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً.
واعلم أنه تعالى لما قال له افعل ما تقدر عليه فقال تعالى : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وفيه قولان :
الأول : أن المراد كل عباد اللّه من المكلفين، وهذا قول أبي على الجبائي، قال والدليل عليه أن اللّه تعالى استثنى منه في آيات كثيرة من يتبعه بقوله : إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [الحجر : ٤٢] ثم استدل بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع الناس وتخبيط عقولهم وأنه لا قدرة له إلا على قدر الوسوسة وأكد ذلك بقوله


الصفحة التالية
Icon