مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٣٩٤
هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه. الأول : أن هذا التفصيل لما عرفه علي، فالنبي أولى أن يكون قد عرفه فلم لم يخبرهم به، وأيضا أن عليا ما كان ينزل عليه الوحي، فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صلّى اللّه عليه وسلم فلم ذكر النبي صلّى اللّه عليه وسلم ذلك الشرح والبيان لعلي ولم يذكره لغيره. الثاني : أن ذلك الملك إن كان حيوانا واحدا وعاقلا واحدا لم يكن في تكثير تلك اللغات فائدة وإن كان المتكلم بكل واحدة من تلك اللغات حيوانا آخر لم يكن ذلك ملكا واحدا بل يكون ذلك مجموع ملائكة. والثالث : أن هذا شيء مجهول الوجود فكيف يسأل عنه، أما الروح الذي هو سبب الحياة فهو شيء تتوفر دواعي العقلاء على معرفته فصرف هذا السؤال إليه أولى. والقول الرابع : وهو قول الحسن وقتادة أن هذا الروح جبريل والدليل عليه أنه تعالى سمى جبريل بالروح في قوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء : ١٩٣، ١٩٤] وفي قوله : فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا
[مريم : ١٧] ويؤكد هذا أنه تعالى قال : قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [في جبريل ] وقال [حكاية عن ] جبريل : وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم : ٦٤] فسألوا الرسول كيف جبريل في نفسه وكيف قيامه بتبليغ الوحي إليه. والقول الخامس : قال مجاهد : الروح خلق ليسوا من الملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورؤوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول وأيضا فهذا شيء مجهول فيبعد صرف هذا السؤال إليه فحاصل ما ذكرناه في تفسير الروح المذكور في هذه الآية هذه الأقوال الخمسة واللّه أعلم بالصواب.
المسألة الثالثة : في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن هاهنا شيئا إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت / وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسما أو عرضا أو مجموع الجسم والعرض أو شيئا مغايرا للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول. أما القسم الأول : وهو أن يقال إن الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسما داخلا في هذه البنية أو جسما خارجا عنها، أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وعن هذا الجسم المحسوس فهم جمهور المتكلمين وهؤلاء يقولون الإنسان لا يحتاج تعريفه إلى ذكر حد أو رسم بل الواجب أن يقال الإنسان هو الجسم المبني بهذه البنية المحسوسة واعلم أن هذا القول عندنا باطل وتقريره أنهم قالوا : الإنسان هو هذا الجسم المحسوس، فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوسا فقد بطل كلامهم بالكلية والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة [عن ] هذا الجسم وجوه. الحجة الأولى : أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة العلم القطعي بأن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة.
الحجة الثانية : أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر معين مخصوص فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن جميع أجزاء بدنه وعن أعضائه وأبعاضه مجموعها ومفصلها وهو في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك، وتاء الضمير كناية عن نفسه فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه و[يكون ] المعلوم غير معلوم، فالإنسان يجب أن


الصفحة التالية
Icon