مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٣٩٦
[الأنعام : ٦١، ٦٢] أثبت كونهم مردودين إلى اللّه الذي هو مولاهم حال كون الجسد ميتا فوجب أن يكون ذلك المردود إلى اللّه مغايرا لذلك الجسد الميت.
الحجة العاشرة : نرى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم، ولولا أنهم بعد موت الجسد بقوا / أحياء لكان التصدق عنهم عبثا، والدعاء لهم عبثا، ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثا، فالاطباق على هذه الصدقة وعلى هذا الدعاء وعلى هذه الزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت، بل [الذي ] يموت هذا الجسد.
الحجة الحادية عشرة : أن كثيرا من الناس يرى أباه أو ابنه بعد موته في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبا دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش كان كما رآه في النوم من غير تفاوت، ولولا أن الإنسان يبقى بعد الموت لما كان كذلك، ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان يبقى بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايرا لهذا الجسد الميت.
الحجة الثانية عشرة : أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه أو رجلاه أو تقلع عيناه أو تقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان ولم يقع في عين ذلك الإنسان تفاوت حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجودا قبل ذلك إلا أنه يقول إنهم قطعوا يدي ورجلي، وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.
الحجة الثالثة عشرة : أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم اللّه وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول : إن ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق؟ فإن لم يبق كان هذا إما
ن الجزء المعين من البدن ليس عالما فاهما مدركا بالاستقلال فسقط هذا السؤال.
الحجة السابعة عشرة : أن الإنسان يجب أن يكون عالما، والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل، وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالما لأنه فاعل مختار، والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القلب والاختيار وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون مقصودا امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن. أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب، وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى : لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف : ١٧٩] وقوله : كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة : ٢٢] وقوله : نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء : ١٩٣، ١٩٤] وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما، وثبت أن العلم ليس إلا في القلب ثبت أن الإنسان شيء في القلب أو شيء له تعلق بالقلب وعلى التقديرين فإنه يبطل قول من يقول الإنسان هو هذا الجسد وهذا الهيكل.
وأما البحث الثاني : وهو بيان أن الإنسان غير محسوس وهو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان قطعيتان وينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني.
المسألة الرابعة : في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن تكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولدا من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسما متولدا من امتزاجات هذه الأربعة فنقول : أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا : الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء، وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو / الأخلاط الأربعة ولم يقل أحد في شيء منها إنه الإنسان إلا في الدم فإن منهم من قال إنه هو الروح بدليل أنه إذا خرج لزم الموت، أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهو الأرواح وهي نوعان : أحدهما : أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح وإنها هي الإنسان ثم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب، ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، ومنهم من