مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٣٦
القرب فإنه يتبعه هذه المناصب فجعل القرب أصلا والمنصب تبعا وأعظم الملوك هو رب العالمين فإذا شرف عبدا بأنه أوصله إلى عتبات خدمته ودرجات كرامته وأوقفه على أسرار معرفته ورفع حجب البعد بينه وبين نفسه وأجلسه على بساط قربه فأي / بعد في أن يظهر بعض تلك الكرامات في هذا العالم مع أن كل هذا العالم بالنسبة إلى ذرة من تلك السعادات الروحانية والمعارف الربانية كالعدم المحض.
الحجة السادسة : لا شك أن المتولي للأفعال هو الروح لا البدن ولا شك أن معرفة اللّه تعالى للروح كالروح للبدن على ما قررناه في تفسير قوله تعالى : يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النمل : ٢٠] وقال عليه السلام :«أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
ولهذا المعنى نرى أن كل من كان أكثر علما بأحوال عالم الغيب كان أقوى قلبا وأقل ضعفا ولهذا
قال علي بن أبي طالب كرم اللّه وجهه : واللّه ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية.
وذلك لأن عليا كرم اللّه وجهه في ذلك الوقت انقطع نظره عن عالم الأجساد وأشرقت الملائكة بأنوار عالم الكبرياء فتقوى روحه وتشبه بجواهر الأرواح الملكية وتلألأت فيه أضواء عالم القدس والعظمة فلا جرم حصل له من القدرة ما قدر بها على ما لم يقدر عليه غيره وكذلك العبد إذا واظب على الطاعات بلغ إلى المقام الذي يقول اللّه كنت له سمعا وبصرا فإذا صار نور جلال اللّه سمعا له سمع القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور بصرا له رأى القريب والبعيد وإذا صار ذلك النور يدا له قدر على التصرف في الصعب والسهل والبعيد والقريب.
الحجة السابعة : وهي مبنية على القوانين العقلية الحكمية، وهي أنا قد بينا أن جوهر الروح ليس من جنس الأجسام الكائنة الفاسدة المتعرضة للتفرق والتمزق، بل هو من جنس جواهر الملائكة وسكان عالم السموات ونوع المقدسين المطهرين إلا أنه لما تعلق بهذا البدن واستغرق في تدبيره صار في ذلك الاستغراق إلى حيث نسي الوطن الأول والمسكن المتقدم وصار بالكلية متشبها بهذا الجسم الفاسد فضعفت قوته وذهبت مكنته ولم يقدر على شيء من الأفعال، أما إذا استأنست بمعرفة اللّه ومحبته وقل انغماسها في تدبير هذا البدن، وأشرقت عليها أنوار الأرواح السماوية العرشية المقدسة، وفاضت عليها من تلك الأنوار قويت على التصرف في أجسام هذا العالم مثل قوة الأرواح الفلكية على هذه الأعمال، وذلك هو الكرامات، وفيه دقيقة أخرى وهي أن مذهبنا أن الأرواح البشرية مختلفة بالماهية ففيها القوية والضعيفة، وفيها النورانية والكدرة، وفيها الحرة والنذلة والأرواح الفلكية أيضا كذلك، ألا ترى إلى جبريل كيف قال اللّه في وصفه : إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير : ١٩- ٢١] وقال في قوم آخرين من الملائكة : وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً [النجم : ٢٦] فكذا هاهنا فإذا اتفق في نفس من النفوس كونها قوية، القوة القدسية العنصرية مشرقة الجوهر علوية الطبيعة، ثم انضاف إليها أنواع الرياضات التي تزيل عن وجهها غبرة عالم الكون والفساد أشرقت وتلألأت وقويت على التصرف في هيولى عالم الكون والفساد بإعانة نور معرفة الحضرة الصمدية وتقوية أضواء حضرة الجلال والعزة. ولنقبض هاهنا عنان البيان فإن وراءها أسرارا دقيقة وأحوالا / عميقة من لم يصل إليها لم يصدق بها، ونسأل اللّه الإعانة على إدراك الخيرات، واحتج المنكرون للكرامات بوجوه.
الشبهة الأولى : وهي التي عليها يعولون وبها يضلون أن ظهور الخارق للعادة جعله اللّه دليلا على النبوة فلو حصل لغير نبي لبطلت هذه الدلالة لأن حصول الدليل مع عدم المدلول يقدح في كونه دليلا،


الصفحة التالية
Icon