مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٤٠
الحجة الثامنة : أنه تعالى قال : فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف : ١٤٤] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر : ٩٩] فلما أعطاه اللّه العطية الكبرى أمره بالاشتغال بخدمة المعطى لا بالفرح بالعطية.
الحجة التاسعة : أن النبي صلّى اللّه عليه وسلم لما خيره اللّه بين أن يكون ملكا نبيا وبين أن يكون عبدا نبيا ترك الملك، ولا شك أن وجدان الملك الذي يعم المشرق والمغرب من الكرامات بل من المعجزات ثم إنه صلّى اللّه عليه وسلم ترك ذلك الملك واختار العبودية لأنه إذا كان عبدا كان افتخاره بمولاه وإذا كان ملكا كان افتخاره بعبيده، فلما اختار العبودية لا جرم جعل السنة التي في التحيات التي رواها ابن مسعود «و أشهد أن محمدا عبده ورسوله» وقيل في المعراج :
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء : ١].
الحجة العاشرة : أن محب المولى غير، ومحب ما للمولى غير، فمن أحب المولى لم يفرح بغير المولى ولم يستأنس بغير المولى، فالاستئناس بغير المولى والفرح بغيره يدل على أنه ما كان محبا للمولى بل كان محبا لنصيب نفسه ونصيب النفس إنما يطلب للنفس فهذا الشخص ما أحب إلا نفسه. وما كان المولى محبوبا له بل جعل المولى وسيلة إلى تحصيل ذلك المطلوب. والصنم الأكبر هو النفس كما قال تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية : ٢٣] فهذا الإنسان عابد للصنم الأكبر / حتى أن المحققين قالوا لا مضرة في عبادة شيء من الأصنام مثل المضرة الحاصلة في عبادة النفس ولا خوف من عبادة الأصنام كالخوف من الفرح بالكرامات.
الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق : ٢، ٣] وهذا يدل على أن من لم يتق اللّه ولم يتوكل عليه لم يحصل له شيء من هذه الأفعال والأحوال.
المسألة الثامنة : في أن الولي هل يعرف كونه وليا، قال الأستاذ أبو بكر بن فورك لا يجوز وقال الأستاذ أبو علي الدقاق وتلميذه أبو القاسم القشيري يجوز، وحجة المانعين وجوه :
الحجة الأولى : لو عرف الرجل كونه وليا لحصل له الأمن بدليل قوله تعالى : أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس : ٦٢] لكن حصول الأمن غير جائز ويدل عليه وجوه : أحدها : قوله مالي :
فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الأعراف : ٩٩] واليأس أيضا غير جائز لقوله تعالى : إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف : ٨٧] ولقوله تعالى : وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر : ٥٦] والمعنى فيه أن الأمن لا يحصل إلا عند اعتقاد العجز، واليأس لا يحصل إلا عند اعتقاد البخل واعتقاد العجز والبخل في حق اللّه كفر، فلا جرم كان حصول الأمن والقنوط كفرا. الثاني : أن الطاعات وإن كثرت إلا أن قهر الحق أعظم ومع كون القهر غالبا لا يحصل الأمن. الثالث : أن الأمن يقتضي زوال العبودية وترك الخدمة والعبودية يوجب العداوة والأمن يقتضي ترك الخوف. الرابع : أنه تعالى وصف المخلصين بقوله :
وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ [الأنبياء : ٩٠] قيل رغبا في ثوابنا، ورهبا من عقابنا. وقيل : رغبا في فضلنا، ورهبا من عدلنا. وقيل رغبا في وصالنا، ورهبا من فراقنا. والأحسن أن يقال رغبا فينا، ورهبا منا.


الصفحة التالية
Icon