مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٥٢
يستقر شيء من العقود، والإيمان، يحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رحمه اللّه خالف ابن عباس في الاستثناء المنفصل فاستحضره لينكر عليه فقال أبو حنيفة رحمه اللّه : هذا يرجع عليك، فإنك تأخذ البيعة بالإيمان أتفرض أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك؟ فاستحسن المنصور كلامه ورضي به. واعلم أن حاصل هذا الكلام يرجع إلى تخصيص النص بالقياس وفيه ما فيه. وأيضا فلو قال إن شاء اللّه على سبيل الخفية بلسانه بحيث لا يسمعه أحد فهو معتبر ودافع للحنث بالإجماع مع أن المحذور الذي ذكرتم حاصل فيه. فثبت أن الذي عولوا عليه ليس بقوي، والأولى أن يحتجوا في وجوب كون الاستثناء متصلا بأن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعقد والعهد. قال تعالى : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة : ١] وقال : وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [الإسراء : ٣٤] فالآتي بالعهد يجب عليه الوفاء بمقتضاه لأجل هذه الآيات / خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان متصلا لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد بدليل أن لفظ الاستثناء وحده لا يفيد شيئا، فهو جار مجرى نصف اللفظ «١» الواحدة، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، وعلى هذا التقدير فعند ذكر الاستثناء عرفنا أنه لم يلزم شيء بخلاف ما إذا كان الاستثناء متصلا فإنه حصل الالتزام التام بالكلام فوجب عليه الوفاء بذلك الملتزم والقول الثاني أن قوله : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ لا تعلق له بما قبله بل هو كلام مستأنف وعلى هذا القول ففيه وجوه.
أحدها : واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، والمراد منه الترغيب في الاهتمام بذكر هذه الكلمة. وثانيها : واذكر ربك إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. وثالثها : حمله بعضهم على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها، وهذا القول بما فيه من الوجوه الثلاثة بعيد لأن تعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضية وجعله كلاما مستأنفا يوجب صيرورة الكلاء مبتدأ منقطعا وذلك لا يجوز ثم قال تعالى : وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً وفيه وجوه : الأول : أن ترك قوله : أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ليس بحسن وذكره أحسن من تركه وقوله : لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً المراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني : إذا وعدهم بشيء وقال معه إن شاء اللّه فيقول عسى أن يهديني ربي لشيء أحسن وأكمل مما وعدتكم به. والثالث : أن قوله :
لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل اللّه يؤتيني من البينات والدلائل على صحة أني نبي من عند اللّه صادق القول في ادعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف.
وقد فعل اللّه ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك، وأما قوله تعالى :
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً فاعلم أن هذه الآية آخر الآيات المذكورة في قصة أصحاب الكهف [المسألة الأولى ] وفي قوله : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ قولان : الأول : أن هذا حكاية كلام القوم والدليل عليه أنه تعالى قال :
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وكذا إلى أن قال : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ أي أن أولئك الأقوام قالوا ذلك ويؤكده أنه تعالى قال بعده : قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وهذا يشبه الرد على الكلام المذكور قبله ويؤكده أيضا ما روي في مصحف عبد اللّه : وقالوا ولبثوا في كهفهم. والقول الثاني : أن قوله : وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ هو كلام اللّه تعالى فإنه أخبر عن كمية تلك المدة، وأما قوله : سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ فهو كلام قد تقدم وقد تخلل بينه وبين هذه الآية ما يوجب انقطاع أحدهما عن الآخر وهو قوله : فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وقوله :

(١). هكذا في الأصل : اللفظ الواحدة، والصواب أن يقال اللفظ الواحد، أو اللفظة الواحدة.


الصفحة التالية
Icon