مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٥٥
نهاه عن ذلك ومنعه عنه وأطنب في جملة هذه الآيات في بيان أن الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد واقتراح باطل، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئا واحدا وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه اللّه إليه وعلى العمل به وأن لا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنت المتعنتين فقال : وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ وفي الآية مسألة وهي : أن قوله : اتْلُ يتناول القراءة ويتناول الإتباع فيكون المعنى الزم قراءة الكتاب الذي أوحى إليك والزم العمل به ثم قال : لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي يمتنع تطرق التغيير والتبديل إليه وهذه الآية يمكن التمسك بها في إثبات أن تخصيص النص بالقياس غير جائز لأن قوله : اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ معناه ألزم العمل بمقتضى هذا الكتاب وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره، فإن قيل فيجب ألا يتطرق النسخ إليه قلنا هذا هو مذهب أبي مسلم الأصفهاني فليس يبعد، وأيضا فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديل لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ فالناسخ كالغاية فكيف يكون تبديلا. أما قوله : وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً اتفقوا على أن الملتحد هو الملجأ قال أهل اللغة : هو من لحد وألحد إذا مال ومنه قوله تعالى : لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ [النحل : ١٠٣] والملحد المائل عن الدين والمعنى ولن تجد من دونه ملجأ في البيان والرشاد.
[سورة الكهف (١٨) : آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
[في قوله تعالى وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ] اعلم أن أكابر قريش اجتمعوا وقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الفقراء من عندك، فإذا حضرنا لم يحضروا، وتعين لهم وقتا يجتمعون فيه عندك فأنزل اللّه تعالى : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الأنعام : ٥٢] الآية فبين فيها إنه لا يجوز طردهم بل تجالسهم وتوافقهم وتعظم شأنهم ولا تلتفت إلى أقوال أولئك الكفار ولا تقيم لهم في نظرك وزنا سواء غابوا أو حضروا. وهذه القصة منقطعة عما قبلها وكلام مبتدأ مستقل. ونظير هذه الآية قد سبق في سورة الأنعام وهو قوله : وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام : ٥٢] ففي تلك الآية نهى الرسول صلّى اللّه عليه وسلم عن طردهم وفي هذه الآية أمره بمجالستهم والمصابرة معهم فقوله : وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أصل الصبر الحبس ومنه نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عن المصبورة وهي البهيمة تحبس فترمى، أما قوله : مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ ابن عامر بالغدوة بضم الغين والباقون بالغداة وكلاهما لغة.
المسألة الثانية : في قوله : بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ وجوه : الأول : المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كل الأوقات كقول القائل : ليس لفلان عمل بالغداة والعشي إلا شتم الناس. الثاني : أن المراد صلاة الفجر والعصر. الثالث : المراد أن الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النوم إلى اليقظة وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من الموت إلى الحياة والعشي هو الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من اليقظة إلى النوم ومن الحياة إلى الموت والإنسان العاقل يكون في هذين الوقتين كثير الذكر للّه عظيم الشكر لآلاء اللّه ونعمائه، ثم قال : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره وجاء القوم عدا زيدا وإنما عدي بلفظة عن لأنها تفيد المباعدة فكأنه تعالى نهى عن تلك المباعدة وقرئ : ولا تعد عينيك ولا تعد عينيك من أعداه وعداه نقلا بالهمزة وتثقيل الحشو ومنه قوله شعر :


الصفحة التالية
Icon