مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٦٢
اعلم أن المقصود من هذا أن الكفار افتخروا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين فبين اللّه تعالى أن ذلك مما لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الفقير غنيا والغني فقيرا، أما الذي يجب / حصول المفاخرة به فطاعة اللّه وعبادته وهي حاصلة لفقراء المؤمنين وبين ذلك بضرب هذا المثل المذكور في الآية فقال :
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أي مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين كانا أخوين في بني إسرائيل أحدهما كافر اسمه براطوس والآخر مؤمن اسمه يهوذا وقيل هما المذكوران في سورة الصافات في قوله تعالى : قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات : ٥١] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فأخذ كل واحد منهما النصف فاشترى الكافر أرضا فقال المؤمن اللهم إني أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به ثم بنى أخوه دارا بألف فقال المؤمن : اللهم إني اشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال المؤمن اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور العين ثم اشترى أخوه خدما وضياعا بألف فقال المؤمن : اللهم إني اشتريت منك الولدان بألف فتصدق به ثم أصابه حاجة فجلس لأخيه على طريقه فمر به في حشمه فتعرض له فطرده ووبخه على التصدق بماله وقوله تعالى : جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ، فاعلم أن اللّه تعالى وصف تلك الجنة بصفات : الصفة الأولى : كونها جنة وسمى البستان جنة لاستتار ما يستتر فيها بظل الأشجار وأصل الكلمة من الستر والتغطية، والصفة الثانية : قوله : وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ
أي وجعلنا النخل محيطا بالجنتين نظيره قوله تعالى : وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر : ٧٥] أي واقفين حول العرش محيطين به، والحفاف جانب الشيء والأحفة جمع فمعنى قول القائل حف به القوم أي صاروا في أحفته وهي جوانبه قال الشاعر :
له لحظات في حفافي سريره إذا كرها فيها عقاب ونائل
قال صاحب «الكشاف» : حفوه إذا طافوا به، وحففته بهم أي جعلتهم حافين حوله وهو متعد إلى مفعول واحد فتزيده الباء مفعولا ثانيا كقوله : غشيته وغشيته به، قال : وهذه الصفة مما يؤثرها الدهاقين في كرومهم وهي أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة، وهو أيضا حسن في المنظر. الصفة الثالثة : وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً والمقصود منه أمور. أحدها : أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه. وثانيها : أن تكون تلك الأرض متسعة الأطراف متباعدة الأكناف ومع ذلك فإنها لم يتوسطها ما يقطع بعضها عن بعض. وثالثها : أن مثل هذه الأرض تأتي في كل وقت بمنفعة أخرى وهي ثمرة أخرى فكانت منافعها دارة متواصلة. الصفة الرابعة : قوله تعالى : كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً كلا اسم مفرد معرفة يؤكد به مذكران معرفتان، وكلتا اسم مفرد يؤكد به مؤنثان معرفتان. وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة كقولك جاءني كلا أخويك، ورأيت كلا أخويك، ومررت بكلا أخويك. وجاءني كلتا أختيك، ورأيت كلتا أختيك، ومررت بكلتا أختيك، وإذا أضيفا إلى المضمر كانا في الرفع بالألف، وفي الجر والنصب بالياء وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضا. وقوله : آتَتْ أُكُلَها حمل على اللفظ لأن كلتا لفظه لفظ مفرد ولو قيل أتتا على المعنى لجاز، وقوله : وَلَمْ تَظْلِمْ / مِنْهُ شَيْئاً أي لم تنقص والظلم النقصان، يقول الرجل : ظلمني حقي


الصفحة التالية
Icon