مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٦٨
يفرح بسببه أو يقيم له / في نظره وزنا فهذا برهان باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد ثم ذكر ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال : وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا وتقرير هذا الدليل أن خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة، لا سيما إذا ثبت أن خيرات الدنيا خسيسة حقيرة وأن خيرات الآخرة عالية رفيعة، لأن خيرات الدنيا حسية وخيرات الآخرة عقلية والعقلية أشرف من الحسية بكثير بالدلائل المذكورة في تفسير قوله تعالى : اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النور : ٣٥] في بيان أن الإدراكات العقلية أفضل من الحسية وإذا كان كذلك كان مجموع السعادات العقلية والحسية هي السعادات الأخروية فوجب أن تكون أفضل من السعادات الحسية الدنيوية واللّه أعلم. والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالا قيل إنها قولنا :«سبحان اللّه والحمد للّه ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر» وللشيخ الغزالي رحمه اللّه في تفسير هذه الكلمات وجه لطيف،
فقال : روي أن من قال سبحان اللّه حصل له من الثواب عشر مرات، فإذا قال والحمد للّه صارت عشرين، فإذا قال : ولا إله إلا اللّه صارت ثلاثين، فإذا قال واللّه أكبر صارت أربعين.
قال وتحقيق القول فيه أن أعظم مراتب الثواب هو الاستغراق في معرفة اللّه وفي محبته فإذا قال سبحان اللّه فقد عرف كونه سبحانه منزها عن كل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك والحمد للّه فقد أقر بأن الحق سبحانه مع كونه منزها عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لإفادة كل ما ينبغي ولإفاضة كل خير وكمال فقد تضاعفت درجات المعرفة فلا جرم قلنا تضاعف الثواب فإذا قال مع ذلك ولا إله إلا اللّه فقد أقر بأن الذي تنزه عن كل ما لا ينبغي فهو المبدأ لكل ما ينبغي وليس في الوجود موجود هكذا إلا الواحد فقد صارت مراتب المعرفة ثلاثة فلا جرم صارت درجات الثواب ثلاثة فإذا قال واللّه أكبر معناه أنه أكبر وأعظم من أن يصل العقل إلى كنه كبريائه وجلاله فقد صارت مراتب المعرفة أربعة لا جرم صارت درجات الثواب أربعة. والقول الثاني : أن الباقيات الصالحات هي الصلوات الخمس. والقول الثالث : أنها الطيب من القول كما قال تعالى : وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ [الحج : ٢٤]. والقول الرابع : أن كل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بمعرفة اللّه وبمحبته وخدمته فهو الباقيات الصالحات وكل عمل وقول دعاك إلى الاشتغال بأحوال الخلق فهو خارج عن ذلك وذلك أن كل ما سوى الحق سبحانه فهو فان لذاته هالك لذاته فكان الاشتغال به والالتفات إليه عملا باطلا وسعيا ضائعا. أما الحق لذاته فهو الباقي لا يقبل الزوال لا جرم كان الاشتغال بمعرفة اللّه ومحبته وطاعته هو الذي يبقى بقاء لا يزول ولا يفنى ثم قال تعالى : خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي كل عمل أريد به وجه اللّه فلا شك أن ما يتعلق به من الثواب وما يتعلق به من الأمل يكون خيرا وأفضل، لأن صاحب تلك الأعمال يؤمل في الدنيا ثواب اللّه ونصيبه في الآخرة.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ إلى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)


الصفحة التالية
Icon