مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٨٤
عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، إذا ثبت هذا فنقول قوله : هَلْ أَتَّبِعُكَ يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيا بها. وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض. وتاسعها : أن قوله : أَتَّبِعُكَ يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور غير مقيد بشيء دون شيء. وعاشرها : أنه ثبت بالإخبار أن الخضر عرف أولا أنه نبي بني إسرائيل وأنه هو موسى صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه اللّه عز وجل من غير واسطة وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع وذلك يدل على كونه عليه السلام آتيا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة وهذا هو اللائق به لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر فكان طلبه لها أشد وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد. والحادي عشر : أنه قال : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فأثبت كونه تبعا له أولا ثم طلب ثانيا أن يعلمه وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم. والثاني عشر :
أنه قال : هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئا كان قال لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم ثم إنه تعالى / حكى عن الخضر أنه قال : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن المتعلم على قسمين متعلم ليس عنده شيء من العلم ولم يمارس القيل والقال ولم يتعود التقرير والاعتراض، ومتعلم حصل العلوم الكثيرة ومارس الاستدلال والاعتراض. ثم إنه يريد أن يخالط إنسانا أكمل منه ليبلغ درجة التمام والكمال والتعلم في هذا القسم الثاني شاق شديد، وذلك لأنه إذا رأى شيئا أو سمع كلاما فربما كان ذلك بحسب الظاهر منكرا إلا أنه كان في الحقيقة حقا صوابا، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف القيل والقال وتعود الكلام والجدال يغتر ظاهره ولأجل عدم كماله لا يقف على سره وحقيقته، وحينئذ يقدم على النزاع والاعتراض والمجادلة، وذلك مما يثقل سماعه على الأستاذ الكامل المتبحر فإذا اتفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة حصلت النفرة التامة والكراهة الشديدة، وهذا هو الذي أشار إليه الخضر بقوله : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً إشارة إلى أنه ألف الكلام وتعود الإثبات والإبطال والاستدلال والاعتراض، وقوله :
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً إشارة إلى كونه غير عالم بحقائق الأشياء كما هي، وقد ذكرنا أنه متى حصل الأمران صعب السكوت وعسر التعليم وانتهى الأمر بالآخرة «١» إلى النفرة والكراهية وحصول التقاطع والتنافر.
المسألة الثانية : احتج أصحابنا بقوله : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً على أن الاستطاعة لا تحصل قبل الفعل. قالوا : لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل حصول الفعل لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة لموسى عليه السلام قبل حصول الصبر فيلزم أن يصير قوله : إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً كذبا، ولما بطل ذلك علمنا أن الاستطاعة لا توجد قبل الفعل. أجاب الجبائي عنه : أن المراد من هذا القول أنه يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف : إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا و[لا] أن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ونظيره قوله تعالى : ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ أي كان يشق عليهم الاستماع، فيقال له : هذا عدول عن

(١) الصواب بآخرة، يعني نهاية الأمر وعاقبته. [.....]


الصفحة التالية
Icon