مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٣٠
يكون مرادهم شيئا عظيما منكرا فيكون ذلك منهم على وجه الذم وهذا أظهر لقولهم بعده : يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا لأن هذا القول ظاهره التوبيخ وأما هارون ففيه أربعة أقوال : الأول : أنه رجل صالح من بني إسرائيل ينسب إليه كل من عرف بالصلاح، والمراد أنك كنت في الزهد كهرون فكيف صرت هكذا، وهو قول / قتادة وكعب وابن زيد والمغيرة بن شعبة ذكر أن هارون الصالح تبع جنازته أربعون ألفا كلهم يسمون هارون تبركا به وباسمه. الثاني : أنه أخو موسى عليه السلام وعن النبي صلّى اللّه عليه وسلم إنما عنوا هارون النبي وكانت من أعقابه
وإنما قيل أخت هارون كما يقال يا أخا همدان أي يا واحدا منهم. والثالث : كان رجلا معلنا بالفسق فنسبت إليه بمعنى التشبيه لا بمعنى النسبة. الرابع : كان لها أخ يسمى هارون من صلحاء بني إسرائيل فعيرت به «١»، وهذا هو الأقرب لوجهين : الأول : أن الأصل في الكلام الحقيقة وإنما يكون ظاهر الآية محمولا على حقيقتها لو كان لها أخ مسمى بهرون. الثاني : أنها أضيفت إليه ووصف أبواها بالصلاح وحينئذ يصير التوبيخ أشد لأن من كان حال أبويه وأخيه هذه الحالة يكون صدور الذنب عنه أفحش.
المسألة الثالثة : القراءة المشهورة : ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وقرأ عمرو بن رجاء التميمي : ما كان أباك امرؤ سوء.
المسألة الرابعة : أنهم لما بالغوا في توبيخها سكتت وأشارت إليه أي إلى عيسى عليه السلام أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وعن السدي لما أشارت إليه غضبوا غضبا شديدا وقالوا : لسخريتها بنا أشد من زناها، روي أنه كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار بسبابته، وقيل :
كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان. وقيل إن زكرياء عليه السلام أتاها عند مناظرة اليهود إياها، فقال لعيسى عليه السلام انطق بحجتك إن كنت أمرت بها فقال عيسى عليه السلام عند ذلك : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم : ٣٠] فإن قيل كيف عرفت مريم من حال عيسى عليه السلام أنه يتكلم؟ قلنا : إن جبريل عليه السلام أو عيسى عليه السلام ناداها من تحتها أن لا تحزني وأمرها عند رؤية الناس بالسكوت، فصار ذلك كالتنبيه لها على أن المجيب هو عيسى عليه السلام أو لعلها عرفت ذلك بالوحي إلى زكرياء أو لعلها عرفت بالوحي إليها على سبيل الكرامة، بقي هاهنا بحثان :
البحث الأول : قوله : كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا أي حصل في المهد فكان هاهنا بمعنى حصل ووجد وهذا هو الأقرب في تأويل هذا اللفظ، وإن كان الناس قد ذكروا وجوها أخر.
البحث الثاني : اختلفوا في المهد فقيل هو حجرها لما روى أنها أخذته في خرقة فأتت به قومها فلما رأوها قالوا لها ما قالوا فأشارت إليه وهو في حجرها ولم يكن لها منزل معد حتى يعد لها المهد أو المعنى : كيف نكلم صبيا سبيله أن ينام في المهد.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٠ إلى ٣٣]
قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)

(١) الأولى أن يقال، فذكرت به، لأن هذا مقام التذكير وقد يجاب بأن الأصل في كل هذا هو التعبير فلم يعدل عنه.


الصفحة التالية
Icon