مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٤٢
في قصة إبراهيم عليه السلام لوجوه : أحدها : أن إبراهيم عليه السلام كان أب العرب وكانوا مقرين / بعلو شأنه وطهارة دينه على ما قال تعالى : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج : ٧٨] وقال تعالى : وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة : ١٣٠] فكأنه تعالى قال للعرب إن كنتم مقلدين لآبائكم على ما هو قولكم : إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف : ٢٣] ومعلوم أن أشرف آبائكم وأجلهم قدرا هو إبراهيم عليه السلام فقلدوه في ترك عبادة الأوثان وإن كنتم من المستدلين فانظروا في هذه الدلائل التي ذكرها إبراهيم عليه السلام لتعرفوا فساد عبادة الأوثان وبالجملة فاتبعوا إبراهيم إما تقليدا وإما استدلالا. وثانيها : أن كثيرا من الكفار في زمن الرسول صلّى اللّه عليه وسلم كانوا يقولون كيف نترك دين آبائنا وأجدادنا فذكر اللّه تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وبين أنه ترك دين أبيه وأبطل قوله بالدليل ورجح متابعة الدليل على متابعة أبيه ليعرف الكفار أن ترجيح جانب الأب على جانب الدليل رد على الأب الأشرف الأكبر الذي هو إبراهيم عليه السلام. وثالثها : أن كثيرا من الكفار كانوا يتمسكون بالتقليد وينكرون الاستدلال على ما قال اللّه تعالى : قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف : ٢٢] وقالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ [الأنبياء : ٥٣] فحكى اللّه تعالى عن إبراهيم عليه السلام التمسك بطريقة الاستدلال تنبيها لهؤلاء على سقوط هذه الطريقة ثم قال تعالى في وصف إبراهيم عليه السلام : إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وفي الصديق قولان : أحدهما : أنه مبالغة في كونه صادقا وهو الذي يكون عادته الصدق لأن هذا البناء ينبئ عن ذلك يقال رجل خمير وسكير للمولع بهذه الأفعال.
والثاني : أنه الذي يكون كثير التصديق بالحق حتى يصير مشهورا به والأول أولى وذلك لأن المصدق بالشيء لا يوصف بكونه صديقا إلا إذا كان صادقا في ذلك التصديق فيعود الأمر إلى الأول فإن قيل أليس قد قال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ [الحديد : ١٩] قلنا : المؤمنون باللّه ورسله صادقون في ذلك التصديق واعلم أن النبي يجب أن يكون صادقا في كل ما أخبر عنه لأن اللّه تعالى صدقه ومصدق اللّه صادق وإلا لزم الكذب في كلام اللّه تعالى فيلزم من هذا كون الرسول صادقا في كل ما يقول، ولأن الرسل شهداء اللّه على الناس على ما قال اللّه تعالى : فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء : ٤١] والشهيد إنما يقبل قوله : إذا لم يكن كاذبا. فإن قيل : فما قولكم في إبراهيم عليه السلام في قوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء : ٦٣] وإِنِّي سَقِيمٌ قلنا قد شرحنا في تأويل هذه الآيات بالدلائل الظاهرة أن شيئا من ذلك ليس بكذب فلما ثبت أن كل نبي يجب أن يكون صديقا ولا يجب في كل صديق أن يكون نبيا ظهر بهذا قرب مرتبة الصديق من مرتبة النبي فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقا إلى ذكر كونه نبيا. وأما النبي فمعناه كونه رفيع القدر عند اللّه وعند الناس وأي رفعة أعلى من رفعة من جعله اللّه واسطة بينه وبين عباده. وقوله : كانَ صِدِّيقاً قيل :
إنه صار وقيل إن معناه وجد صديقا نبيا أي كان من أول وجوده إلى انتهائه موصوفا بالصدق والصيانة. قال صاحب «الكشاف» : هذه الجملة وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذ قال ونظيره قولك رأيت زيدا ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه بتلك المخاطبات / أما قوله : يا أَبَتِ
فالتاء عوض عن ياء الإضافة ولا يقال يا أبتي لئلا يجمع بين العوض والمعوض عنه وقد يقال : يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام. النوع الأول : قوله : لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
ووصف الأوثان بصفات ثلاثة كل واحدة منها قادحة في الإلهية وبيان ذلك من وجوه : أحدها : أن


الصفحة التالية
Icon