مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٤٦
فكأن أباه قابل ذلك التعجب الظاهر المبني على الدليل بتعجب / فاسد غير مبني على دليل وشبهة، ولا شك أن هذا التعجب جدير بأن يتعجب منه، أما قوله : لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في الرجم هاهنا قولان : الأول : أنه الرجم باللسان، وهو الشتم والذم، ومنه قوله :
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ [النور : ٤] أي بالشتم، ومنه الرجيم، أي المرمي باللعن، قال مجاهد : الرجم في القرآن كله بمعنى الشتم. والثاني : أنه الرجم باليد، وعلى هذا التقدير ذكروا وجوها : أحدها : لأرجمنك بإظهار أمرك للناس ليرجموك ويقتلوك. وثانيها : لأرجمنك بالحجارة لتتباعد عني. وثالثها : عن المؤرج لأقتلنك بلغة قريش. ورابعها : قال أبو مسلم لأرجمنك المراد منه الرجم بالحجارة إلا أنه قد يقال ذلك في معنى الطرد والإبعاد اتساعا، ويدل على أنه أراد الطرد قوله تعالى : وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا واعلم أن أصل الرجم هو الرمي بالرجام فحمله عليه أولى، فإن قيل : أفما يدل قوله تعالى : وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا على أن المراد به الرجم بالشتم؟
قلنا : لا، وذلك لأنه هدده بالرجم إن بقي على قربه منه وأمره أن يبعد هربا من ذلك فهو في معنى قوله :
وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا.
المسألة الثانية : في قوله تعالى : وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا قولان : أحدهما : المراد واهجرني بالقول. والثاني :
بالمفارقة في الدار والبلد وهي هجرة الرسول والمؤمنين أي تباعد عني لكي لا أراك وهذا الثاني أقرب إلى الظاهر.
المسألة الثالثة : في قوله : مَلِيًّا قولان : الأول : مليا أي مدة بعيدة مأخوذ من قولهم أتى على فلان ملاوة من الدهر أي زمان بعيد. والثاني : مليا بالذهاب عني والهجران قبل أن أثخنك بالضرب حتى لا تقدر أن تبرح يقال فلان ملي بكذا إذا كان مطيقا له مضطلعا به.
المسألة الرابعة : عطف اهجرني على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك، أي فاحذرني واهجرني لئلا أرجمنك، ثم إن إبراهيم عليه السلام لما سمع من أبيه ذلك أجاب عن أمرين. أحدهما : أنه وعده التباعد منه، وذلك لأن أباه لما أمره بالتباعد أظهر الانقياد لذلك الأمر وقوله : سَلامٌ عَلَيْكَ توادع ومتاركة كقوله تعالى : لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص : ٥٥]، وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان : ٦٣] وهذا دليل على جواز متاركة المنصوح إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسن مقابلة الإساءة بالإحسان، ويجوز أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له، ألا ترى أنه وعده بالاستغفار، ثم إنه لما ودع أباه بقوله : سَلامٌ عَلَيْكَ ضم إلى ذلك ما دل به على أنه وإن بعد عنه فاشفاقه باق عليه كما كان وهو قوله : سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي واحتج بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياء، وتقريره أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز لأنه استغفر لأبيه وهو كافر والاستغفار للكافر لا يجوز، فثبت بمجموع هذه المقدمات أن إبراهيم عليه السلام فعل ما لا يجوز، إنما قلنا إنه استغفر لأبيه لقوله تعالى حكاية عن إبراهيم : سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي وقوله : وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء : ٨٦] وأما أن أباه كان كافرا فذاك بنص القرآن / وبالإجماع، وأما أن الاستغفار للكافر لا يجوز فلوجهين. الأول : قوله تعالى : ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة : ١١٣]. الثاني : قوله في سورة الممتحنة : قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ- إلى قوله- لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة : ٤] وأمر الناس إلا في هذا الفعل فوجب أن يكون ذلك معصية


الصفحة التالية
Icon