مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٥٦
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ إلى ٧٠]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
اعلم أنه تعالى لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها فكأن سائلا سأل وقال هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا، وأما في الآخرة فقد أنكرها قوم فلا بد من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى / يظهر أن الاشتغال بالعبادة مفيد فلهذا حكى اللّه تعالى قول منكري الحشر فقال : وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا وإنما قالوا ذلك على وجه الإنكار والاستبعاد، وذكروا في الإنسان وجهين : أحدهما : أن يكون المراد الجنس بأسره فإن قيل كلهم غير قائلين بذلك فكيف يصح هذا القول؟ قلنا الجواب من وجهين : الأول : أن هذه المقالة لما كانت موجودة فيما هو من جنسهم صح إسنادها إلى جميعهم، كما يقال : بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل رجل منهم. والثاني : أن هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلا أن بعضهم ترك ذلك الاستبعاد المبني على محض الطبع بالدلالة القاطعة التي قامت على صحة القول به. الثاني : أن المراد بالإنسان شخص معين.
فقيل : هو أبو جهل، وقيل : هو أبي بن خلف، وقيل : المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث، ثم إن اللّه تعالى أقام الدلالة على صحة البعث بقوله : أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً والقراء كلهم على يذكر بالتشديد إلا نافعا وابن عامر وعاصما فقد خففوا، أي أو لا يتذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل وإذا قرئ أو لا يذكر فهو أقرب إلى المراد إذ الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل لا من شيء فجائز أن يعاد ثانيا. قال بعض العلماء : لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أن الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أولا، ونظيره قوله : قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس : ٧٩] وقوله : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم : ٢٧] واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن المعدوم ليس بشيء وهو ضعيف لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض وهذا المجموع ما كان شيئا، ولكن لم قلت إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئا قبل كونه موجودا؟ فإن قيل : كيف أمر تعالى الإنسان بالذكر مع أن الذكر هو العلم بما قد علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ قلنا : المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصا إذا قرئ أو لا يذكر الإنسان بالتشديد أما إذا قرئ أو لا يذكر بالتخفيف فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأن كل أحد يعلم أنه لم يكن حيا في الدنيا ثم صار حيا، ثم إنه سبحانه لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتهديد من وجوه. أحدها : قوله : فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ وفائدة القسم أمران : أحدهما : أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين.
والثاني : أن في إقسام اللّه تعالى باسمه مضافا إلى اسم رسوله صلّى اللّه عليه وسلم تفخيم لشأنه صلّى اللّه عليه وسلم ورفع منه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله : فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [الذاريات : ٢٣] والواو في الشَّياطِينَ ويجوز أن تكون للعطف وأن تكون بمعنى مع وهي بمعنى مع أوقع، والمعنى أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغووهم يقرن كل كافر مع شيطان في سلسلة. وثانيها :


الصفحة التالية
Icon