مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٣٣
هذه الشبهة النافية للتكليف أن تلزمونا نفي التكليف فكأنكم تكلفونا بنفي التكليف وهو متناقض. والثاني : وهو أن مدار كلامكم في هذه الشبهات على حرف واحد وهو أن التكاليف كلها تكاليف بما لا يطاق فلا يجوز من الحكيم أن يوجبها على العباد فيرجع حاصل هذه الشبهات إلى أنه يقال له تعالى : لم كلفت عبادك، إلا أنا قد بينا أنه سبحانه : لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ فظهر بهذا أن قوله : لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ كالأصل والقاعدة لقوله : وَهُمْ يُسْئَلُونَ فتأمل في هذه الدقائق العجيبة لتقف على طرف من أسرار علم القرآن، وأما الوقوع السمعي فلقائل أن يقول إن قوله : وَهُمْ يُسْئَلُونَ وإن كان متأكدا بقوله : فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : ٩٢] وبقوله : وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ [الصافات : ٢٤] إلا أنه يناقضه قوله : فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن : ٣٩] والجواب : أن يوم القيامة يوم طويل وفيه مقامات فيصرف كل واحد من السلب والإيجاب إلى مقام آخر دفعا للتناقض.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة فيه وجوه : أحدها : أنه تعالى لو كان هو الخالق للحسن والقبيح لوجب أن يسأل عما يفعل، بل كان يذم بما حقه الذم، كما يحمد بما حقه المدح. وثانيها : أنه كان يجب أن لا يسأل عن الأمور إذا كان لا فاعل سواه. وثالثها : أنه كان لا يجوز أن يسألوا عن عملهم إذ لا عمل لهم. ورابعها : أن أعمالهم لا يمكنهم أن يعدلوا عنها من حيث خلقها وأوجدها فيهم. وخامسها : أنه تعالى صرح في كثير من المواضع بأنه يقبل حجة العباد عليه كقوله : رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء : ١٦٥] وهذا يقتضي أن لهم عليه الحجة قبل بعثة الرسل، وقال : وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه : ١٣٤] ونظائر هذه الآيات كثيرة وكلها تدل على أن حجة العبد متوجهة على اللَّه تعالى. وسادسها : قال ثمامة إذا وقف العبد يوم القيامة فيقول اللَّه تعالى : ما حملك على معصيتي؟ فيقول على مذهب الجبر : يا رب إنك خلقتني كافرا وأمرتني بما لا أقدر عليه وحلت بيني وبينه، ولا شك أنه على مذهب الجبر يكون صادقا، وقال اللَّه تعالى : هذا يَوْمُ يَنْفَعُ / الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة : ١١٩] فوجب أن ينفعه هذا الكلام فقيل له، ومن يدعه يقول : هذا الكلام أو يحتج؟ فقال ثمامة : أليس إذا منعه اللَّه الكلام والحجة فقد علم أنه منعه مما لو لم يمنعه منه لانقطع في يده، وهذا نهاية الانقطاع. والجواب عن هذه الوجوه : أنها معارضة بمسألة الداعي ومسألة العلم ثم بالوجوه الثمانية التي بينا فيها أنه يستحيل طلب لمية أفعال اللَّه تعالى وأحكامه.
وأما قوله تعالى : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ فاعلم أنه سبحانه كرر قوله : أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استعظاما لكفرهم أي وصفتم اللَّه بأن له شريكا فهاتوا برهانكم على ذلك. أما من جهة العقل، أو من جهة النقل فإنه سبحانه لما ذكر دليل التوحيد أولا وقرر الأصل الذي عليه تخرج شبهات القائلين بالتثنية ثانيا، أخذ يطالبهم بذكر شبهتهم ثالثا.
أما قوله تعالى : هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في تفسيره وفيه أقوال : أحدها : هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ أي هذا هو الكتاب المنزل على من معي : وهذا ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي أي الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وهو التوراة والإنجيل والزبور والصحف، وليس في شيء منها أني أذنت بأن تتخذوا إلها من دوني بل ليس فيها إلا : إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا