مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٣٧
السؤال فدفعه من وجوه : أحدها : أنا نثبت نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم بسائر المعجزات ثم نستدل بقوله ثم نجعله دليلا على حصول النظام في العالم وانتقاء الفساد عنه وذلك يؤكد الدلالة المذكورة في التوحيد. وثانيا : أن يحمل الرتق والفتق على إمكان الرتق والفتق والعقل، يدل عليه لأن الأجسام يصح عليها الاجتماع والافتراق فاختصاصها بالاجتماع دون الافتراق أو بالعكس يستدعي مخصصا. وثالثها : أن اليهود والنصارى كانوا عالمين بذلك فإنه جاء في التوراة إن اللَّه تعالى خلق جوهرة، ثم نظر إليها بعين الهيبة فصارت ماء، ثم خلق السموات والأرض منها وفتق بينهما، وكان بين عبدة الأوثان وبين اليهود نوع صداقة بسبب الاشتراك في عداوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم فاحتج اللَّه تعالى عليهم بهذه الحجة بناء على أنهم يقبلون قول اليهود في ذلك.
المسألة الثالثة : إنما قال كانَتا رَتْقاً ولم يقل كن رتقا لأن السموات لفظ الجمع والمراد به الواحد الدال على الجنس، قال الأخفش : السموات نوع والأرض نوع، ومثله : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر : ٤١] ومن ذلك قولهم أصلحنا بين القومين، ومرت بنا غنمان أسودان، لأن هذا القطيع غنم وذلك غنم.
المسألة الرابعة : الرتق في اللغة السد، يقال : رتقت الشيء فارتتق والفتق الفصل بين الشيئين الملتصقين.
قال الزجاج : الرتق مصدر والمعنى كانتا ذواتي رتق، قال المفضل : إنما لم يقل كانتا رتقين كقوله : وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ [الأنبياء : ٨] لأن كل واحد جسد كذلك فيما نحن فيه كل واحد رتق.
المسألة الخامسة : اختلف المفسرون في المراد من الرتق والفتق على أقوال : أحدها : وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير ورواية عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم أن المعنى كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل اللَّه بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض وهذا القول يوجب أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء لأنه تعالى لما فصل بينهما ترك الأرض حيث هي وأصعد الأجزاء السماوية، قال كعب : خلق اللَّه السموات والأرض ملتصقتين ثم خلق ريحا توسطتهما ففتقهما بها. وثانيها : وهو قول أبي صالح ومجاهد أن المعنى كانت السموات مرتتقة فجعلت سبع سموات / وكذلك الأرضون. وثالثها : وهو قول ابن عباس والحسن وأكثر المفسرين أن السموات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق اللَّه السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر، ونظيره قوله تعالى : وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق : ١١، ١٢] ورجحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك : وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم ولا يكون كذلك إلا إذا كان المراد ما ذكرنا. فإن قيل : هذا الوجه مرجوح لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا، قلنا : إنما أطلق عليه لفظ الجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال : ثوب أخلاق وبرمة أعشار. واعلم أن على هذا التأويل يجوز حمل الرؤية على الإبصار. ورابعها : قول أبي مسلم الأصفهاني : يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله : فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشورى : ١١] وكقوله : قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء : ٥٦] فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.
أقول وتحقيقه أن العدم نفي محض، فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة، بل كأنه أمر واحد متصل متشابه، فإذا وجدت الحقائق فعند الوجود والتكون يتميز بعضها عن بعض وينفصل بعضها عن بعض، فبهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازا عن العدم والفتق عن الوجود. وخامسها : أن الليل سابق على النهار، لقوله تعالى : وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس : ٣٧] وكانت السموات والأرض