مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٤١
فيتخلف بعضها عن بعض بسبب ذلك التخلف فيظن أنها تتحرك إلى خلاف تلك الجهة مثلا الفلك الأعظم استدارته من أول اليوم الأول إلى أول اليوم الثاني دورة تامة وفلك الثوابت استدارته من أول اليوم الأولى إلى أول اليوم الثاني دورة تامة إلا مقدار ثانية فيظن أن فلك الثوابت تحرك من الجهة الأخرى مقدار ثانية ولا يكون كذلك بل ذلك لأنه تخلف بمقدار ثانية، وعلى هذا التقدير فجميع الجهات شرقية وأسرعها الحركة اليومية، ثم يليها في السرعة فلك الثوابت ثم يليها زحل وهكذا إلى أن ينتهي إلى فلك القمر فهو أبطأ الأفلاك حركة وهذا الذي قلناه مع ما يشهد له البرهان المذكور فهو أقرب إلى ترتيب الوجود، فإن على هذا التقدير تكون نهاية الحركة الفلك المحيط وهو الفلك الأعظم / ونهاية السكون الجرم الذي هو في غاية البعد وهو الأرض، ثم إن كل ما كان أقرب إلى الفلك المحيط كان أسرع حركة وما كان منه أبعد كان أبطأ فهذا ما نقوله في حركات الأفلاك في أطوالها وأما حركاتها في عروضها فظاهرة وذلك بسبب اختلاف ميولها إلى الشمال والجنوب. إذا ثبت هذا فنقول لو لم يكن للكواكب حركة في الميل لكان التأثير مخصوصا ببقعة واحدة، فكان سائر الجوانب تخلو عن المنافع الحاصلة منه، وكان الذي يقرب منه متشابه الأحوال وكانت القوة هناك لكيفية واحدة، فإن كانت حارة أفنت الرطوبات فأحالتها كلها إلى النارية، وبالجملة فيكون الموضع المحاذي لممر الكواكب على كيفية وخط ما لا يحاذيه على كيفية أخرى وخط المتوسط بينهما على كيفية أخرى فيكون في موضع شتاء دائم ويكون فيه الهواء والعجاجة وفي موضع آخر صيف دائم يوجب الاحتراق وفي موضع آخر ربيع
أو خريف لا يتم فيه النضج ولو لم تكن عودات متتالية، وكان الكواكب يتحرك بطيئا لكان الميل قليل المنفعة والتأثير شديد الإفراط، وكان يعرض قريبا مما لو لم يكن ميل ولو كانت الكواكب أسرع حركة من هذه لما كملت المنافع وما تمت، وأما إذا كان هناك ميل يحفظ الحركة في جهة مدة ثم ينتقل إلى جهة أخرى بمقدار الحاجة ويبقى في كل جهة برهة تم بذلك تأثيره بحيث يبقى مصونا عن طرفي الإفراط والتفريط. وبالجملة، فالعقول لا تقف إلا على القليل من أسرار المخلوقات فسبحان الخالق المدبر بالحكمة البالغة والقدرة الغير المتناهية.
المسألة الثانية : أنه لا يجوز أن يقول : وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ إلا ويدخل في الكلام مع الشمس والقمر النجوم ليثبت معنى الجمع ومعنى الكل فصارت النجوم وإن لم تكن مذكورة أولا فإنها مذكورة لعود هذا الضمير إليها واللَّه أعلم.
المسألة الثالثة : الفلك في كلام العرب كل شيء دائر وجمعه أفلاك، واختلف العقلاء فيه فقال بعضهم :
الفلك ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم وهو قول الضحاك، وقال الأكثرون : بل هي أجسام تدور النجوم عليها، وهذا أقرب إلى ظاهر القرآن، ثم اختلفوا في كيفيته فقال بعضهم : الفلك موج مكفوف تجري الشمس والقمر والنجوم فيه، وقال الكلبي : ماء مجموع تجري فيه الكواكب واحتج بأن السباحة لا تكون إلا في الماء، قلنا : لا نسلم فإنه يقال في الفرس الذي يمد يديه في الجري سابح، وقال جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة :
إنها أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام والنمو والذبول، فأما الكلام على الفلاسفة فهو مذكور في الكتب اللائقة به، والحق أنه لا سبيل إلى معرفة صفات السموات إلا بالخبر.
المسألة الرابعة : اختلف الناس في حركات الكواكب والوجوه الممكنة فيها ثلاثة فإنه إما أن يكون الفلك ساكنا والكواكب تتحرك فيه كحركة السمك في الماء الراكد، وإما أن يكون الفلك متحركا والكواكب تتحرك فيه


الصفحة التالية
Icon