مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٤٥
هذه الآية في النضر بن الحرث والمراد بالإنسان هو، واعلم أن القول الأول أولى لأن الغرض ذم القوم، وذلك لا يحصل إلا إذا حملنا لفظ الإنسان على النوع.
المسألة الثانية : من المفسرين من أجرى هذه الآية على ظاهرها ومنهم من قلبها، أما الأولون فلهم فيها أقوال : أحدها : قول المحققين وهو أن قوله : خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي خلق / عجولا، وذلك على المبالغة كما قيل للرجل الذكي : هو نار تشتعل، والعرب قد تسمي المرء بما يكثر منه فتقول : ما أنت إلا أكل ونوم، وما هو إلا إقبال وإدبار، قال الشاعر :
أما إذا ذكرت حتى إذا غفلت فإنما هي إقبال وإدبار
وهذا الوجه متأكد بقوله تعالى : وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء : ١١] قال المبرد : خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ أي من شأنه العجلة كقوله : خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [الروم : ٥٤] أي ضعفاء. وثانيها : قال أبو عبيد :
العجل الطين بلغة حمير وأنشدوا :
والنخل يثبت بين الماء والعجل
وثالثها : قال الأخفش :(من عجل) أي من تعجيل من الأمر وهو قوله كن. ورابعها : من عجل، أي من ضعف عن الحسن. أما الذين قلبوها فقالوا المعنى : خلق العجل من الإنسان، كقوله : وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ [الأحقاف : ٢٠] أي تعرض النار عليهم والقول الأول أقرب إلى الصواب وأبعد الأقوال هذا القلب لأنه إذا أمكن حمل الكلام على معنى صحيح وهو على ترتيبه فهو أولى من أن يحمل على أنه مقلوب، وأيضا فإن قوله : خلقت العجلة من الإنسان فيه وجوه من المجاز. فما الفائدة في تغيير النظم إلى ما يجري مجراه في المجاز.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : القوم استعجلوا الوعد على وجه التكذيب ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا على الحقيقة. قلنا : استعجالهم على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه إذا ذم المرء استعجال الأمر المعلوم فبأن يذم على استعجال ما لا يكون معلوما له كان أولى، وأيضا فإن استعجالهم بما توعدهم من عقاب الآخرة أو هلاك الدنيا يتضمن استعجال الموت وهم عالمون بذلك فكانوا مستعجلين في الحقيقة.
أما قوله تعالى : سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فقد اختلفوا في المراد بالآيات على أقوال : أحدها : أنها هي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولذلك قال : فَلا تَسْتَعْجِلُونِ أي أنها ستأتي لا محالة في وقتها. وثانيها : أنها أدلة التوحيد وصدق الرسول. وثالثها : أنها آثار القرون الماضية بالشام واليمن والأول أقرب إلى النظم.
أما قوله تعالى : وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فاعلم أن هذا هو الاستعجال المذموم المذكور على سبيل الاستهزاء وهو كقوله : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ [العنكبوت : ٥٣] فبين تعالى أنهم يقولون ذلك لجهلهم وغفلتهم، ثم إنه سبحانه ذكر في رفع هذا الحزن عن قلب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وجهين : الأول : بأن بين ما لصاحب هذا الاستهزاء من العقاب الشديد فقال : لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ قال صاحب «الكشاف» :