مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٥٠
المسألة الخامسة : إن قيل الحبة أعظم من الخردلة، فكيف قال حبة من خردل؟ قلنا : الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار. والغرض المبالغة في أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع عند اللَّه تعالى.
أما قوله تعالى : وَكَفى بِنا حاسِبِينَ فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه، ويروي عن الشبلي رحمه اللَّه تعالى أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل اللَّه بك فقال :
حاسبونا فدققوا ثم منوا فأعتقوا
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٤٨ إلى ٥٠]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠)
[القصة الأولى، قصة موسى عليه السلام ]
اعلم أنه سبحانه لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء عليهم السلام، تسلية للرسول عليه السلام فيما يناله من قومه وتقوية لقلبه على أداء الرسالة والصبر على كل عارض دونها وذكر هاهنا منها قصصا.
القصة الأولى، قصة موسى عليه السلام ووجه الاتصال أنه تعالى لما أمر رسوله صلى اللَّه عليه وسلم أن يقول : إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء : ٤٥] أتبعه بأن هذه عادة اللَّه تعالى في الأنبياء قبله فقال : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ واختلفوا في المراد بالفرقان على أقوال : أحدها : أنه هو التوراة، فكان فرقانا إذ كان يفرق به بين الحق والباطل، وكان ضياء إذ كان لغاية وضوحه يتوصل به إلى طرق الهدى وسبل النجاة في معرفة اللَّه تعالى ومعرفة الشرائع، وكان ذكرى أي موعظة أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم أو الشرف أما الواو في قوله : وَضِياءً فروى عكرمة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنه قرأ ضياء بغير واو وهو حال من الفرقان، وأما القراءة المشهورة فالمعنى آتيناهم الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرى للمتقين. والمعنى أنه في نفسه ضياء وذكرى أو آتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرى «١». القول الثاني : أن المراد من الفرقان ليس التوراة ثم فيه وجوه : أحدها : عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما الفرقان هو النصر الذي أوتي موسى عليه السلام كقوله : وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال : ٤١] يعني يوم بدر حين فرق بين الحق وغيره من الأديان الباطلة.
وثانيها : هو البرهان الذي فرق به دين الحق عن الأديان الباطلة عن ابن زيد. وثالثها : فلق البحر عن الضحاك. ورابعها : الخروج عن الشبهات، قال محمد بن كعب واعلم أنه تعالى إنما خصص الذكر بالمتقين لما في قوله : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : ٢] أما قوله تعالى : الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فقال صاحب