مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٥٦
الصادر عنه إلى الصنم، وإنما قصد تقريره لنفسه وإثباته لها على أسلوب تعريضي يبلغ فيه غرضه من إلزامهم الحجة وتبكيتهم، وهذا كما لو قال لك صاحبك، وقد كتبت كتابا بخط رشيق، وأنت شهير بحسن الخط، أأنت كتبت هذا؟ وصاحبك أمي لا يحسن الخط ولا يقدر إلا على خرمشة فاسدة، فقلت له : بل كتبته أنت، كأن قصدك بهذا الجواب تقرير ذلك مع الاستهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي أو المخرمش، لأن إثباته والأمر دائر بينهما للعاجز منهما استهزاء به وإثبات للقادر. وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزبنة. وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في استهانته بها وحطمه لها، والفعل كما يسند إلى مباشره يسد إلى الحامل عليه. وثالثها : أن يكون حكاية لما يلزم على مذهبهم كأنه قال لهم : ما تنكرون أن يفعله كبيرهم، فإن من حق من يعبد ويدعي إلها أن يقدر على هذا وأشد منه. وهذه الوجوه الثلاثة ذكرها صاحب «الكشاف». ورابعها : أنه كناية عن غير مذكور، أي فعله من فعله وكبيرهم هذا ابتداء الكلام ويروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بل فعله ثم يبتدئ كبيرهم هذا.
وخامسها : أنه يجوز أن يكون فيه وقف عند قوله كبيرهم ثم يبتدئ فيقول هذا فاسألوهم، والمعنى بل فعله كبيرهم وعنى نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. وسادسها : أن يكون في الكلام تقديم وتأخير كأنه قال : بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم فتكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا بكونهم ناطقين فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين. وسابعها : قرأ محمد بن السميفع فعله كبيرهم أي فلعل الفاعل كبيرهم.
القول الثاني : وهو قول طائفة من أهل الحكايات، أن ذلك كذب واحتجوا بما
روي عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال :«لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلها في ذات اللَّه تعالى، قوله : إِنِّي سَقِيمٌ وقوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا وقوله لسارة هي أختي»
وفي خبر آخر :«أن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة قال : إني كذبت ثلاث كذبات»
ثم قرروا قولهم من جهة العقل وقالوا : الكذب ليس قبيحا لذاته، فإن النبي عليه السلام إذا هرب من ظالم واختفى في دار إنسان، وجاء الظالم وسأل عن حاله فإنه يجب الكذب فيه، وإذا كان كذلك فأي بعد في أن يأذن اللَّه تعالى في ذلك لمصلحة لا يعرفها إلا هو، واعلم أن هذا القول مرغوب عنه. أما الخبر الأول وهو الذي رووه فلأن يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والدليل القاطع عليه أنه لو جاز أن يكذبوا لمصلحة ويأذن اللَّه تعالى فيه، فلنجوز هذا / الاحتمال في كل ما أخبروا عنه، وفي كل ما أخبر اللَّه تعالى عنه وذلك يبطل الوثوق بالشرائع وتطرق التهمة إلى كلها، ثم إن ذلك الخبر لو صح فهو محمول على المعاريض على ما
قال عليه السلام :«إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
فأما قوله تعالى : إِنِّي سَقِيمٌ فلعله كان به سقم قليل واستقصاء الكلام فيه يجيء في موضعه.
وأما قوله : بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ فقط ظهر الجواب عنه.
أما قوله لسارة : إنها أختي، فالمراد أنها أخته في الدين، وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب إلى الأنبياء عليهم السلام فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلا زنديق.
أما قوله تعالى : فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ففيه وجوه : الأول : أن إبراهيم عليه السلام لما نبههم بما أورده عليهم على قبح طريقهم تنبهوا فعلموا أن عبادة الأصنام باطلة، وأنهم على غرور وجهل في ذلك. والثاني : قال مقاتل : فرجعوا إلى أنفسهم فلاموها وقالوا إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث


الصفحة التالية
Icon