مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٦١
الْخَيْراتِ
فلو حملنا الصلاح على النبوة لزم التكرار واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى لأن قوله : وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ يدل على أن ذلك الصلاح من قبله، أجاب الجبائي بأنه لو كان كذلك لما وصفهم بكونهم صالحين وبكونهم أئمة وبكونهم عابدين. ولما مدحهم بذلك، ولما أثنى عليهم، وإذا ثبت ذلك فلا بد من التأويل وهو من وجهين : الأول : أن يكون المراد أنه سبحانه آتاهم من لطفه وتوفيقه ما صلحوا به. والثاني : أن يكون المراد أنه سماهم بذلك كما يقال : زيد فسق فلانا وضلّله وكفره إذا وصفه بذلك وكان مصدقا عند الناس، وكما يقال في الحاكم : زكى فلانا وعدله وجرحه إذا حكم بذلك. واعلم أن هذه الوجوه مختلة، أما اعتمادهم على المدح والذم. فالجواب المعهود أن نعارضه بمسألتي الداعي والعلم، وأما الحمل على اللطف فباطل لأن فعل الإلطاف عام في المكلفين فلا بد في هذا التخصيص من مزيد فائدة، وأيضا فلأن قوله : جعلته صالحا، كقوله جعلته متحركا، فحمله على تحصيل شيء سوى الصلاح ترك للظاهر، وأما الحمل على التسمية فهو أيضا مجاز أقصى ما في الباب أنه قد يصار إليه عند الضرورة في بعض المواضع وهاهنا لا ضرورة إلا أن يرجعوا مرة أخرى إلى فصل المدح والذم، فحينئذ نرجع أيضا إلى مسألتي الداعي والعلم.
النعمة الثالثة : قوله تعالى : وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وفيه قولان : أحدهما : أي جعلناهم أئمة يدعون الناس إلى دين اللَّه تعالى والخيرات بأمرنا وإذننا. الثاني : قول أبي مسلم أن هذه الإمامة هي النبوة، والأول أولى لئلا يلزم التكرار، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أمرين : أحدهما : على خلق الأفعال بقوله :
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً وتقريره ما مضى. والثاني : على أن الدعوة إلى الحق والمنع عن الباطل لا يجوز إلا بأمر اللَّه تعالى لأن الأمر لو لم يكن معتبرا لما كان في قوله بأمرنا فائدة.
النعمة الرابعة : قوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وهذا يدل على أنه سبحانه خصهم بشرف النبوة وذلك من أعظم النعم على الأب، قال الزجاج : حذف الهاء من إقامة الصلاة لأن الإضافة عوض عنه، وقال غيره : الإقام والإقامة مصدر، قال أبو القاسم الأنصاري : الصلاة / أشرف العبادات البدنية وشرعت لذكر اللَّه تعالى، والزكاة أشرف العبادات المالية ومجموعهما التعظيم لأمر اللَّه تعالى والشفقة على خلق اللَّه، واعلم أنه سبحانه وصفهم أولا بالصلاح لأنه أول مراتب السائرين إلى اللَّه تعالى ثم ترقى فوصفهم بالإمامة. ثم ترقى فوصفهم بالنبوة والوحي. وإذا كان الصلاح الذي هو العصمة أول مراتب النبوة دل ذلك على أن الأنبياء معصومون فإن المحروم عن أول المراتب أولى بأن يكون محروما عن النهاية، ثم إنه سبحانه كما بين أصناف نعمه عليهم بين بعد ذلك اشتغالهم بعبوديته فقال : وَكانُوا لَنا عابِدِينَ كأنه سبحانه وتعالى لما وفى بعهد الربوبية في الإحسان والإنعام فهم أيضا وفوا بعهد العبودية وهو الاشتغال بالطاعة والعبادة.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٤ إلى ٧٥]
وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥)
القصة الثالثة، قصة لوط عليه السلام


الصفحة التالية
Icon