مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٨٩
وثانيها : أنهم لا يسمعون ما ينفعهم لأنهم إنما يسمعون أصوات المعذبين أو كلام من يتولى تعذيبهم من الملائكة. وثالثها : قال ابن مسعود إن الكفار يجعلون في توابيت من نار والتوابيت في توابيت أخر فلذلك لا يسمعون شيئا والأول ضعيف لأن أهل النار يسمعون كلام أهل الجنة فلذلك يستغيثون بهم على ما ذكره اللَّه تعالى في سورة الأعراف.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠١ إلى ١٠٣]
إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣)
اعلم أن من الناس من زعم أن ابن الزبعري لما أورد ذلك السؤال على الرسول صلى اللَّه عليه وسلم بقي ساكتا حتى أنزل اللَّه تعالى هذه الآية جوابا عن سؤاله لأن هذه الآية كالاستثناء من تلك الآية. وأما نحن فقد بينا فساد هذا القول وذكرنا أن سؤاله لم يكن واردا، وأنه لا حاجة في دفع سؤاله إلى نزول هذه الآية، وإذا ثبت هذا لم يبق هاهنا إلا أحد أمرين : الأول : أن يقال : إن عادة اللَّه تعالى أنه متى شرح عقاب الكفار أردفه بشرح ثواب الأبرار، فلهذا السبب ذكر هذه الآية عقيب تلك فهي عامة في حق كل المؤمنين. الثاني : أن هذه الآية نزلت في تلك الواقعة لتكون كالتأكيد في دفع سؤال ابن الزبعري، ثم من قال العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وهو الحق أجراها على عمومها فتكون الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام داخلين فيها، لا أن الآية مختصة بهم، ومن قال : العبرة بخصوص السبب خصص قوله : إِنَّ الَّذِينَ بهؤلاء فقط.
أما قوله تعالى : سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى فقال صاحب «الكشاف» : الحسنى الخصلة المفضلة والحسنى تأنيث الأحسن، وهي إما السعادة وإما البشرى بالثواب، وإما التوفيق للطاعة. والحاصل أن مثبتي العفو حملوا الحسنى على وعد العفو ومنكري العفو حملوه على وعد الثواب، ثم إنه سبحانه وتعالى شرح من أحوال ثوابهم أمورا خمسة : أحدها : قوله : أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ فقال أهل العفو معناه أولئك عنها مخرجون، واحتجوا عليه بوجهين : الأول : قوله : وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم : ٧١] أثبت الورود وهو الدخول، فدل على أن هذا الإبعاد هو الإخراج. الثاني : أن أبعاد الشيء عن الشيء لا يصح إلا إذا كانا متقاربين لأنهما لو كانا متباعدين استحال إبعاد أحدهما عن الآخر، لأن تحصيل الحاصل محال، واحتج القاضي عبد الجبار على فساد هذا القول الأول بأمور : أحدها : أن قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يقتضي أن الوعد بثوابهم قد تقدم في الدنيا وليس هذا حال من يخرج من النار لو صح ذلك. وثانيها : أنه تعالى قال : أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ وكيف يدخل في ذلك من وقع فيها. وثالثها : قوله تعالى : لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وقوله : لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يمنع من ذلك. والجواب عن الأول : لا نسلم أن [يقال ] المراد من قوله : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى هو أن الوعد بثوابهم قد تقدم، ولم لا يجوز أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالعفو، سلمنا أن المراد من الحسنى تقدم الوعد بالثواب، لكن لم قلتم إن الوعد بالثواب لا يليق بحال من يخرج من النار فإن عندنا المحابطة باطلة ويجوز الجمع بين استحقاق الثواب والعقاب. وعن الثاني : أنا بينا أن قوله : أُولئِكَ عَنْها


الصفحة التالية
Icon