مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٩٤
يؤمن ألبتة وأخبر عنه أنه لا يؤمن كان أمره إياه بالإيمان أمرا يقلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وذلك محال، فكان قد أمره بالمحال. وإن كانت البعثة مع هذا القول رحمة، فلم لا يجوز أن يقال البعثة رحمة مع أنه خلق الكفر في الكافر؟ ولأن قدرة الكافر إن لم تصلح إلا للكفر فقط فالسؤال عليهم لازم، وإن كانت صالحة للضدين توقف للترجيح على مرجح من قبل اللَّه تعالى، قطعا للتسلسل. وحينئذ يعود الإلزام ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون رحمة للكافر بمعنى تأخير عذاب الاستئصال عنه؟ قوله : أولا لما كان رحمة للجميع على حد واحد وجب أن يكون رحمة للكافر من الوجه الذي كان رحمة للمؤمنين، قلنا : ليس في الآية أنه عليه السلام رحمة للكل باعتبار واحد أو باعتبارين مختلفين، فدعواك بكون الوجه واحدا تحكم. قوله نعم الدنيا كانت حاصلة للكفار من قبل قلنا : نعم ولكنه عليه السلام لكونه رحمة للمؤمنين لما بعث حصل الخوف للكفار من نزول العذاب، فلما اندفع ذلك عنهم بسبب حضوره كان ذلك رحمة في حق الكفار.
المسألة الثالثة : تمسكوا بهذه الآية في أنه أفضل من الملائكة، قالوا : لأن الملائكة من العالمين. فوجب بحكم هذه الآية أن يكون عليه السلام رحمة للملائكة، فوجب أن يكون أفضل منهم. والجواب : أنه معارض بقوله تعالى في حق الملائكة : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر : ٧] وذلك رحمة / منهم في حق المؤمنين، والرسول عليه السلام داخل في المؤمنين، وكذا قوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ [الأحزاب : ٥٦].
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٠٨ إلى ١١٢]
قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢)
[في قوله تعالى قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ إلى قوله عَلى سَواءٍ] اعلم أنه تعالى لما أورد على الكفار الحجج في أن لا إله سواه من الوجوه التي تقدم ذكرها، وبين أنه أرسل رسوله رحمة للعالمين، أتبع ذلك بما يكون إعذارا وإنذارا في مجاهدتهم والإقدام عليهم، فقال : قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : إنما يقصر الحكم على شيء أو يقصر الشيء على حكم، كقولك إنما زيد قائم أو إنما يقوم زيد، وقد اجتمع المثالان في هذه الآية. لأن : إِنَّما يُوحى إِلَيَّ مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد : أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ بمنزلة إنما زيد قائم، وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مقصور على إثبات وحدانية اللَّه تعالى وفي قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أن الوحي الوارد على هذا السنن يوجب أن تخلصوا التوحيد له وأن تتخلصوا من نسبة الأنداد، وفيه أنه يجوز إثبات التوحيد بالسمع.
فإن قيل : لو دلت إنما على الحصر لزم أن يقال : إنه لم يوح إلى الرسول شيء إلا التوحيد ومعلوم أن ذلك فاسد، قلنا : المقصود منه المبالغة، أما قوله : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ فقال صاحب «الكشاف» :
آذن منقول من أذن إذا علم ولكنه كثر استعماله في الجري مجرى الإنذار، ومنه قوله : فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ


الصفحة التالية
Icon