مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ٩
فلو كان مختصا بالمكان لكان الجانب الذي منه يلي ما على يمينه غير الجانب الذي منه يلي ما على يساره فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة فيبطل قوله : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. وعاشرها : أن الخليل عليه السلام قال : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام : ٧٦] ولو كان المعبود جسما لكان آفلا أبدا غائبا أبدا فكان يندرج تحت قوله : لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فثبت بهذه الدلائل أن الاستقرار على اللَّه تعالى محال وعند هذا للناس فيه قولان، الأول : أنا لا نشتغل بالتأويل بل نقطع بأن اللَّه تعالى منزه عن المكان والجهة ونترك تأويل الآية وروى الشيخ الغزالي عن بعض أصحاب الإمام أحمد بن حنبل أنه أول ثلاثة من الأخبار :
قوله عليه السلام «الحجر الأسود يمين اللَّه في الأرض»،
وقوله عليه السلام :«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن»
وقوله عليه السلام :«إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن»
واعلم أن هذا القول ضعيف لوجهين : الأول : أنه إن قطع بأن اللَّه تعالى منزه عن المكان والجهة فقد قطع بأن ليس مراد اللَّه تعالى من الإستواء الجلوس وهذا هو التأويل. وإن لم يقطع بتنزيه اللَّه تعالى عن المكان والجهة بل بقي شاكا فيه فهو جاهل باللَّه تعالى، اللهم إلا أن يقول أنا قاطع بأنه ليس مراد اللَّه تعالى ما يشعر به ظاهره بل مراده به شيء آخر ولكني لا أعين ذلك المراد خوفا من الخطأ فهذا يكون قريبا، وهو أيضا ضعيف لأنه تعالى لما خاطبنا بلسان العرب وجب أن لا يريد باللفظ إلا موضوعه في لسان العرب وإذا كان لا معنى للاستواء في اللغة إلا الاستقرار والاستيلاء وقد تعذر حمله على الاستقرار فوجب حمله على الاستيلاء وإلا لزم تعطيل اللفظ وإنه غير جائز. والثاني : وهو دلالة قاطعة على أنه لا بد من المصير إلى التأويل وهو أن / الدلالة العقلية لما قامت على امتناع الاستقرار ودل ظاهر لفظ الاستواء على معنى الاستقرار، فإما أن نعمل بكل واحد من الدليلين، وإما أن نتركهما معا، وإما أن نرجح النقل على العقل، وإما أن نرجح العقل ونؤول النقل. والأول باطل وإلا لزم أن يكون الشيء الواحد منزها عن المكان وحاصلا في المكان وهو محال. والثاني : أيضا محال لأنه يلزم رفع النقيضين معا وهو باطل. والثالث : باطل لأن العقل أصل النقل فإنه ما لم يثبت بالدلائل العقلية وجود الصانع وعلمه وقدرته وبعثته للرسل لم يثبت النقل فالقدح في العقل يقتضي القدح في العقل والنقل معا، فلم يبق إلا أن نقطع بصحة العقل ونشتغل بتأويل النقل وهذا برهان قاطع في المقصود إذا ثبت هذا فنقول قال بعض العلماء المراد من الإستواء الاستيلاء قال الشاعر :
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
فإن قيل هذا التأويل غير جائز لوجوه. أحدها : أن الاستيلاء معناه حصول الغلبة بعد العجز وذلك في حق اللَّه تعالى محال. وثانيها : أنه إنما يقال فلان استولى على كذا إذا كان له منازع ينازعه، وكان المستولى عليه موجودا قبل ذلك، وهذا في حق اللَّه تعالى محال، لأن العرش إنما حدث بتخليقه وتكوينه. وثالثها : الاستيلاء حاصل بالنسبة إلى كل المخلوقات فلا يبقى لتخصيص العرش بالذكر فائدة. والجواب : أنا إذا فسرنا الاستيلاء بالاقتدار زالت هذه المطاعن بالكلية، قال صاحب الكشاف لما كان الاستواء على العرش، وهو سرير الملك لا يحصل إلا مع الملك جعلوه كناية عن الملك فقالوا : استوى فلان على البلد يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير ألبتة، وإنما عبروا عن حصول الملك بذلك لأنه أصرح وأقوى في الدلالة من أن يقال فلان ملك ونحوه قولك : يد فلان مبسوطة، ويد فلان مغلولة، بمعنى أنه جواد وبخيل لا فرق بين العبارتين إلا فيما قلت حتى أن من لم تبسط يده قط بالنوال أو لم يكن له يد رأسا قيل فيه يده مبسوطة لأنه لا فرق عندهم بينه وبين قوله جواد،


الصفحة التالية
Icon