مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٣٣
ويمكن الاستقاء منها إلا أنها عطلت أي تركت لا يستقى منها لهلاك أهلها وفي المشيد قولان : أحدهما : أنه المجصص لأن الجص بالمدينة يسمى الشيد والثاني : أنه المرفوع المطول، والمعنى أنه تعالى بين أن القرية مع تكلف بنائهم لها واغتباطهم بها جعلت لأجل كفرهم بهذا الوصف، وكذلك البئر التي كلفوها وصارت شربهم صارت معطلة بلا شارب ولا وارد، والقصر الذي أحكموه بالجص وطولوه صار ظاهرا خاليا بلا ساكن، وجعل ذلك تعالى عبرة لمن اعتبر وتدبر. وفيه دلالة على أن تفسير على بمع أولى لأن التقدير وهي خاوية مع عروشها ومعلوم أنها إذا كانت كذلك كانت أدخل في الاعتبار وهو كقوله تعالى : وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ
[الصافات : ١٣٧] واللَّه أعلم بالصواب.
المسألة الثانية : روى أبو هريرة رضي اللَّه عنه أن هذه البئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به، ونجاهم اللَّه تعالى من العذاب وهم بحضرموت، وإنما سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات ثم، وثم بلدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح، وأمروا عليها حاسر بن جلاس وجعلوا وزيره سنجاريب وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما، وأرسل اللَّه تعالى إليهم حنظلة بن صفوان فقتلوه في السوق فأهلكهم اللَّه تعالى، وعطل بئرهم وخرب قصورهم، قال الإمام أبو القاسم الأنصاري، وهذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف يقال إنه بحضرموت.
أما قوله تعالى : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فالمقصود منه ذكر ما يتكامل به ذلك الاعتبار لأن الرؤية لها حظ عظيم في الاعتبار وكذلك / استماع الأخبار فيه مدخل، ولكن لا يكمل هذان الأمران إلا بتدبر القلب لأن من عاين وسمع ثم لم يتدبر ولم يعتبر لم ينتفع ألبتة ولو تفكر فيها سمع لانتفع، فلهذا قال : فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ كأنه قال لا عمى في أبصارهم فإنهم يرون بها لكن العمى في قلوبهم حيث لم ينتفعوا بما أبصروه، وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : قوله : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ هل يدل على الأمر بالسفر الجواب : يحتمل أنهم ما سافروا فحثهم على السفر ليروا مصارع من أهلكهم اللَّه بكفرهم ويشاهدوا آثارهم فيعتبروا، ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ورأوا ذلك ولكن لم يعتبروا فجعلوا كأن لم يسافروا ولم يروا.
السؤال الثاني : ما معنى الضمير في قوله : فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ والجواب : هذا الضمير ضمير القصة والشأن يجيء مؤنثا ومذكرا وفي قراءة ابن مسعود فإنه ويجوز أن يكون ضميرا مبهما يفسره الأبصار.
السؤال الثالث : أي فائدة في ذكر الصدور مع أن كل أحد يعلم أن القلب لا يكون إلا في الصدر؟
الجواب : أن المتعارف أن العمى مكانه الحدقة، فلما أريد إثباته للقلب على خلاف المتعارف احتيج إلى زيادة بيان كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك، فقولك الذي بين فكيك تقرير لما ادعيته للسان وتثبيت، لأن محل المضاء هو هو لا غير، وكأنك قلت ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك سهوا، ولكني تعمدته على اليقين. وعندي فيه وجه آخر وهو أن القلب قد يجعل كناية عن الخاطر والتدبر كقوله تعالى : إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق : ٣٧] وعند قوم أن محل التفكر هو الدماغ فاللَّه تعالى بين أن محل ذلك هو الصدر.


الصفحة التالية
Icon