مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٥٩
على لغة أكلوني البراغيث أو على الإبهام والتفسير.
الصفة الأولى : قوله : الْمُؤْمِنُونَ وقد تقدم القول في الإيمان في سورة البقرة.
الصفة الثانية : قوله : الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ واختلفوا في الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون وترك الالتفات، ومنهم من جمع بين الأمرين وهو الأولى. فالخاشع في صلاته لا بد وأن يحصل له مما يتعلق بالقلب من الأفعال نهاية الخضوع والتذلل للمعبود، ومن التروك أن لا يكون ملتفت الخاطر إلى شيء سوى التعظيم، ومما يتعلق بالجوارح أن يكون ساكنا مطرقا ناظرا إلى موضع سجوده، ومن التروك أن لا يلتفت يمينا ولا شمالا، ولكن الخشوع الذي يرى على الإنسان ليس إلا ما يتعلق بالجوارح فإن ما يتعلق بالقلب لا يرى، قال الحسن وابن سيرين كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يفعل ذلك فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه، فإن قيل فهل تقولون إن ذلك واجب في الصلاة؟ قلنا إنه عندنا واجب ويدل عليه أمور : أحدها : قوله تعالى : أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد : ٢٤] والتدبر لا يتصور بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله تعالى : وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل : ٤] معناه قف على عجائبه ومعانيه وثانيها : قوله تعالى : وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه : ١٤] وظاهر الأمر للوجوب والغفلة تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيما للصلاة لذكره وثالثها : قوله تعالى : وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف :
٢٠٥] وظاهر النهي للتحريم ورابعها : قوله : حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء : ٤٣] تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق المهتم بالدنيا وخامسها :
قوله عليه السلام :«إنما الخشوع لمن تمسكن وتواضع»
وكلمة إنما للحصر، وقوله عليه السلام :«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من اللَّه إلا بعدا»
وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء، وقال عليه السلام :«كم من قائم حظه من قيامه التعب والنصب»
وما أراد به إلا الغافل، وقال أيضا :«ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل»
وسادسها : قال الغزالي رحمه اللَّه : المصلي يناجي ربه كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة، وبيانه أن الإنسان إذا أدى الزكاة حال الغفلة فقد حصل المقصود منها على بعض الوجوه، وهو كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى التي هي عدوة اللَّه تعالى. فلا يبعد أن يحصل منه مقصوده مع الغفلة، وكذا الحج أفعال شاقة، وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء سواء كان القلب حاضرا أو لم يكن. أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود، أما الذكر فإنه مناجاة مع اللَّه تعالى. فإما أن يكون المقصود منه كونه مناجاة، أو المقصود مجرد الحروف والأصوات، / ولا شك في فساد هذا القسم فإن تحريك اللسان بالهذيان ليس فيه غرض صحيح. فثبت أن المقصود منه المناجاة وذلك لا يتحقق إلا إذا كان اللسان معبرا عما في القلب من التضرعات فأي سؤال في قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة : ٦] وكان القلب غافلا عنه؟ بل أقول لو حلف إنسان، وقال : واللَّه لأشكرن فلانا وأثني عليه وأسأله حاجة. ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في اليوم لم يبر في يمينه ولو جرى على لسانه في ظلمة الليل وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير بارا في يمينه، ولا يكون كلامه خطابا معه ما لم يكن حاضرا بقلبه، ولو جرت هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر في بياض النهار إلا أن المتكلم غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم


الصفحة التالية
Icon