مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٦٨
ورابعها : وما كنا عن خلق السموات غافلين بل نحن لها حافظون لئلا تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه كقوله تعالى : ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك : ٣].
واعلم أن هذه الآية دالة على كثير من المسائل : إحداها : أنها دالة على وجود الصانع فإن انقلاب هذه الأجسام من صفة إلى صفة أخرى تضاد الأولى مع إمكان بقائها على تلك الصفة يدل على أنه لا بد من محول ومغير. وثانيتها : أنها تدل على فساد القول بالطبيعة فإن شيئا من تلك الصفات لو حصل بالطبيعة لوجب بقاؤها وعدم تغيرها ولو قلت إنما تغيرت تلك الصفات لتغير تلك الطبيعة افتقرت تلك الطبيعة إلى خالق وموجد وثالثتها : تدل على أن المدبر قادر عالم لأن الموجب / والجاهل لا يصدر عنه هذه الأفعال العجيبة ورابعتها :
تدل على أنه عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات وخامستها : تدل على جواز الحشر والنشر نظرا إلى صريح الآية ونظرا إلى أن الفاعل لما كان قادرا على كل الممكنات وعالما بكل المعلومات وجب أن يكون قادرا على إعادةالتركيب إلى تلك الأجزاء كما كانت وسادستها : أن معرفة اللَّه تعالى يجب أن تكون استدلالية لا تقليدية وإلا لكان ذكر هذه الدلائل عبثا.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ١٨ إلى ٢٠]
وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠)
النوع الثالث : الاستدلال بنزول الأمطار وكيفية تأثيراتها في النبات.
اعلم أن الماء في نفسه نعمة وأنه مع ذلك سبب لحصول النعم فلا جرم ذكره اللَّه تعالى أولا ثم ذكر ما يحصل به من النعم ثانيا.
أما قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فقد اختلفوا في السماء فقال الأكثرون من المفسرين إنه تعالى ينزل الماء في الحقيقة من السماء وهو الظاهر من اللفظ ويؤكده قوله : وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ [الذاريات : ٢٢] وقال بعضهم المراد السحاب وسماه سماء لعلوه، والمعنى أن اللَّه تعالى أصعد الأجزاء المائية من قعر الأرض إلى البحار ومن البحار إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بسبب ذلك التصعيد، ثم إن تلك الذرات تأتلف وتتكون ثم ينزله اللَّه تعالى على قدر الحاجة إليه، ولولا ذلك لم ينتفع بتلك المياه لتفرقها في قعر الأرض ولا بماء البحار لملوحته ولأنه لا حيلة في إجراء مياه البحار على وجه الأرض لأن البحار هي الغاية في العمق، واعلم أن هذه الوجوه إنما يتمحلها من ينكر الفاعل المختار فأما من أقربه فلا حاجة به إلى شيء منها.
أما قوله تعالى : بِقَدَرٍ فمعناه بتقدير يسلمون معه من المضرة ويصلون إلى المنفعة في الزرع والغرس والشرب، أو بمقدار ما علمناه من حاجاتهم ومصالحهم.
أما قوله : فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ قيل معناه جعلناه ثابتا في الأرض، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما أنزل اللَّه تعالى من الجنة خمسة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، ثم يرفعها عند خروج يأجوج ومأجوج ويرفع أيضا القرآن.


الصفحة التالية
Icon