مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٨٣
عذاب ربهم مشفقون، وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة، والمعنى الذين هم من خشية ربهم دائمون في طاعته، جادون في طلب مرضاته. والتحقيق أن من بلغ في الخشية إلى حد الإشفاق وهو كمال الخشية، كان في نهاية الخوف من سخط اللَّه عاجلا، ومن عقابه آجلا، فكان في نهاية الاحتراز عن المعاصي.
الصفة الثانية : قوله : وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ واعلم أن آيات اللَّه تعالى هي المخلوقات الدالة على وجوده، والإيمان بها هو التصديق بها، والتصديق بها إن كان بوجودها فذلك معلوم بالضرورة، وصاحب هذا التصديق لا يستحق المدح، وإن كان بكونها آيات ودلائل على وجود الصانع فذلك مما لا يتوصل إليه إلا بالنظر والفكر، وصاحبه لا بد وأن يصير عارفا / بوجود الصانع وصفاته، وإذا حصلت المعرفة بالقلب حصل الإقرار باللسان ظاهرا وذلك هو الإيمان.
الصفة الثالثة : قوله : وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ وليس المراد منه الإيمان بالتوحيد ونفي الشريك للَّه تعالى لأن ذلك داخل في قوله : وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ بل المراد منه نفي الشرك الخفي، وهو أن يكون مخلصا في العبادة لا يقدم عليها إلا لوجه اللَّه تعالى وطلب رضوانه واللَّه أعلم.
الصفة الرابعة : قوله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ معناه يعطون ما أعطوا فدخل فيه كل حق يلزم إيتاؤه سواء كان ذلك من حق اللَّه تعالى : كالزكاة والكفارة وغيرهما، أو من حقوق الآدميين : كالودائع والديون وأصناف الإنصاف والعدل، وبين أن ذلك إنما ينفع إذا فعلوه وقلوبهم وجلة، لأن من يقدم على العبادة وهو وجل من تقصيره وإخلاله بنقصان أو غيره، فإنه يكون لأجل ذلك الوجل مجتهدا في أن يوفيها حقها في الأداء. وسألت عائشة رضي اللَّه عنها رسول صلى اللَّه عليه وسلم فقالت : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف اللَّه تعالى؟ فقال عليه الصلاة والسلام :«لا يا ابنة الصديق، ولكن هو الرجل يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف اللَّه تعالى».
واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، لأن الصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد الموجب للاحتراز عما لا ينبغي.
والصفة الثانية : دلت على ترك الرياء في الطاعات.
والصفة الثالثة : دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصديقين رزقنا اللَّه سبحانه الوصول إليها، فإن قيل : أفتقولون إن قوله :
وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ يرجع إلى يؤتون، أو يرجع إلى كل ما تقدم من الخصال؟ قلنا بل الأولى أن يرجع إلى الكل لأن العطية ليست بذلك أولى من سائر الأعمال، إذ المراد أن يؤدي ذلك على وجل من تقصيره، فيكون مبالغا في توفيته حقه، فأما إذا قرئ والذين يأتون ما أتوا فالقول فيه أظهر، إذ المراد بذلك أي شيء أتوه وفعلوه من تحرز عن معصية وإقدام على إيمان وعمل، فإنهم يقدمون عليه مع الوجل، ثم إنه سبحانه بين علة ذلك الوجل وهي علمهم بأنهم إلى ربهم راجعون، أي للمجازاة والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال، وأن هناك لا تنفع الندامة، فليس إلا الحكم القاطع من جهة مالك الملك. ثم إنه سبحانه لما ذكر هذه الصفات للمؤمنين


الصفحة التالية
Icon